بالشك في بيدودة جنته : لطول أمله واستيلا الحرص عليه وتمادى غفلته واغتراره بالمهلة وإطراحه النظر في عواقب أمثاله. وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم ، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وكما يزعم صاحبه ، ليجدنّ في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا ، تطمعا وتمنيا على الله ، وادّعاء لكرامته عليه ومكانته عنده ، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله ، وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه ، كقوله (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) ، (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً). وقرئ : خيرا منهما ، ردّا على الجنتين (مُنْقَلَباً) مرجعا وعاقبة. وانتصابه على التمييز ، أى : منقلب تلك ، خير من منقلب هذه ، لأنها فانية وتلك باقية.
(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)(٣٧) (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أى خلق أصلك ، لأنّ خلق أصله سبب في خلقه ، فكان خلقه خلقا له (سَوَّاكَ) عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعله كافرا بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث ، كما يكون المكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم كافرا
(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً)(٣٨)
(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) أصله لكن أنا ، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن ، فتلاقت النونان فكان الإدغام. ونحوه قول القائل :
وترميننى بالطّرف أى أنت مذنب |
|
وتقليننى لكنّ إيّاك لا أقلى (١) |
أى : لكن أنا لا أقليك وهو ضمير الشأن ، والشأن الله ربى ، والجملة خبر أنا ، والراجع منها إليه ياء الضمير. وقرأ ابن عامر بإثبات ألف أنا في الوصل والوقف جميعا ، وحسن ذلك وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة. وغيره لا يثبتها إلا في الوقف. وعن أبى عمرو أنه وقف بالهاء :
__________________
(١) يقول : وترميننى يا محبوبة بطرفك ، أى : تشيرين إلى به. فالرمى : استعارة مصرحة ، لأنه شبه إطلاق البصر بإطلاق الحجر. ويجوز أن الباء للالة ، فالمرمى محذوف فسره بقوله : أى أنت مذنب ، فأى تفسيرية ، يعنى أن ما رمته به هو ادعاؤها أنه مذنب. وقلاه يقليه ، وقليه يقلاه. وقد يقال : قلاه يقلاه بمعنى بغضه أشد البغض ، ولكن أصله : ولكن أنا ، فنقلت حركة الهمزة إلى النون ثم حذفت ، ثم أدغمت النون في النون بعدها ، وحذفت الألف الأخيرة في الرسم كاللفظ. ولو أجرى الوصل مجرى الوقف لثبتت ، وقدم المفعول وهو «إياك» للاهتمام ببراءتها من فلاء وتخصيصها بذلك دون غيرها من النساء.