كما ذكرت ، ولكنهم بادّعائهم لها الإلهية ، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار ، لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور ، والإنشار من جملة المقدورات. وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل ، وإشعار بأنّ ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده ، لأنّ الإلهية لما صحت صحّ معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. ونحو قوله (مِنَ الْأَرْضِ) قولك : فلان من مكة أو من المدينة ، تريد : مكي أو مدنى. ومعنى نسبتها إلى الأرض : الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض : لأنّ الآلهة على ضربين : أرضية وسماوية. ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أين ربك»؟ فأشارت إلى السماء ، فقال إنها مؤمنة (١) لأنه فهم منها أنّ مرادها نفى الآلهة الأرضية التي هي الأصنام ، لا إثبات السماء مكانا لله عزّ وجلّ. ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض ، لأنها إمّا أن تنحت من بعض الحجارة ، أو تعمل من بعض جواهر الأرض. فإن قلت : لا بدّ من نكتة في قوله (هُمْ) (٢) قلت : النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية ، كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم. وقرأ الحسن (يُنْشِرُونَ) وهما لغتان : أنشر الله الموتى ، ونشرها. وصفت آلهة بإلا كما توصف بغير ، لو قيل آلهة غير الله.
__________________
(١) أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث معاوية بن الحكم السلمي.
(٢) عاد كلامه. قال محمود : «إن قلت لا بد لقوله (هُمْ) من فائدة ، وإلا فالكلام مستقل بدونها ... الخ» قال أحمد : وفي هذه النكتة نظر ، لأن آلات الحصر مفقودة ، وليس ذلك من قبيل : صديقي زيد ، فان المبتدأ في الآية أخص شيء لأنه ضمير. وأيضا فلا ينبغي على ذلك إلزامهم حصر الألوهية فيهم ، وتخصيص الانشار بهم ، ونفيه عن الله تعالى ، إذ هذا لا يناسب السياق ، فانه قال عقبها : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. ومعناه : لو كان فيهما إله غير الله شريكا لله لفسدتا ، وكان مقتضى ما قال الزمخشري أن يقال : لو لم يكن فيهما آلهة إلا الأصنام لفسدتا. وأما والمتلوّ على خلاف ذلك ، فلا وجه لما قال الزمخشري. وعندي أنه يحتمل والله أعلم أن تكون فائدة قوله (هُمْ) الإيذان بأنهم لم يدعوا لها الانشار ، وأن قوله (هُمْ يُنْشِرُونَ) استئناف إلزام لهم ، وكأنه قال : اتخذوا آلهة مع الله عز وجل فهم إذن يحيون الموتى ضرورة كونهم آلهة ، ثم لما انتظم من دعواهم الألوهية للأصنام وإلزامهم على ذلك أن يصفوهم بالقدرة الكاملة على إحياء الموتى ، نظم في إبطال هذه الدعوى وما ألزمهم عليها دليل قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وأزيد هذا التقرير وضوحا فأقول : إن دليل التمانع المغترف من بحر هذه الآية ، المقتبس من نورها ، يورده المتكلمون على صورة التقسيم ، فيقولون : لو وجد مع الله إله آخر ، وربما قالوا : لو فرضنا وجود إلهين ، فاما أن يكونا جميعا موصوفين بصفات الكمال اللاتي يندرج فيها القدرة على إحياء الموتى وإنشارهم وغير ذلك من الممكنات ، أو لا يتصف بها واحد منهما أو أحدهما دون الآخر ، ثم يحيلون جميع الأقسام وهو المسمى برهان الخلف. وأدق الأقسام إبطالا قسم اتصافهما جميعا بصفات الكمال ، وما عداه فببادئ الرأى يبطل. فانظر كيف اختار له تعالى إبطال هذا القسم الخفي البطلان ، فأوضح فساده في أخصر أسلوب وأوجزه ، وأبلغ بديع الكلام ومعجزه. وإنما ينتظم هذا على أن يكون المقصد من قوله (هُمْ يُنْشِرُونَ) إلزامهم ادعاء صفات الألوهية لآلهتهم ، حتى يتحرى أنهم اختاروا القسم الذي أبطله الله تعالى ، ووكل إبطال ما عداه من الأقسام إلى ما ركبه في عباده من العقول ، وكل خطب بعد بطلان هذا القسم جلل ، والله الموفق. فتأمل هذا الفصل بعين الانصاف. تجده أنفس الانصاف ، والله المستعان.