منكرا؟ قلت : هو كقولك : هو أوّل رجل جاءني ، تريد أوّل الرجال ، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا ، فكذلك معنى (أَوَّلَ خَلْقٍ) : أوّل الخلق ، بمعنى : أوّل الخلائق ، لأن الخلق مصدر لا يجمع. ووجه آخر ، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره (نُعِيدُهُ) وما موصولة ، أى : نعيد مثل الذي بدأناه نعيده. وأول خلق : ظرف لبدأناه ، أى : أوّل ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ ، الثابت في المعنى (وَعْداً) مصدر مؤكد ، لأنّ قوله (نُعِيدُهُ) عدة للإعادة (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أى قادرين على أن نفعل ذلك.
(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(١٠٥)
عن الشعبي رحمة الله عليه : زبور داود عليه السلام ، والذكر : التوراة. وقيل اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب. والذكر : أم الكتاب ، يعنى اللوح ، أى : يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار ، كقوله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) ، (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وعن ابن عباس رضى الله عنه : هي أرض الجنة. وقيل : الأرض المقدّسة ، ترثها أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (١٠٦)
الإشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. والبلاغ : الكفاية وما تبلغ به البغية.
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(١٠٧)
أرسل صلى الله عليه وسلم (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله : أن يفجر الله عينا غديقة ، فيسقى ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا ، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا ، فالعين
__________________
ـ سورة مريم ، حيث فسر الاعادة بجمع المتفرق خاصة ، إلا أنه كدر صفو اعترافه بالحق بتفسيره قوله (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) بالقدرة على الفعل ، ولا يلزم على هذا من القدرة على الفعل حصوله ، تحويما على أن الموعود به ليس إعادة الأجسام عن عدم وإن كانت القدرة صالحة لذلك ، ولكن إعادة الأجزاء على صورها مجتمعة مؤتلفة على ما تقدم له في سورة مريم ، إلا أن يكون الباعث له على تفسير الفعل بالقدرة : أن الله ذكر ماضيا والاعادة وقوعها مستقبل ، فتعين عنده من ثم حمل الفعل على القدرة فقد قارب ، ومع ذلك فالحق بقاء الفعل على ظاهره ؛ لأن الأفعال المستقبلة التي علم الله وقوعها ، كالماضية في التحقيق ، فمن ثم عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز. والغرض الإيذان بتحقيق وقوعه ، والله أعلم.