المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم يتعهد أمرها سواه» (قالَ يا مَرْيَمُ) استئناف بياني (أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين لك هذا الرزق لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك ، ومجيء (أَنَّى) بمعنى من أين ، أو كيف تقدم الكلام عليه ، واستشهد للأول بقوله :
تمنى بوادي الرمث زينب ضلة |
|
فكيف ومن «أنّى» بذي الرمث تطرق |
وللثاني بقوله :
أنى ومن أين ـ أبك الطرب |
|
من حيث لا صبوة ولا ريب |
وحذف حرف الجر من (أَنَّى) نحو حذف ـ في ـ من الظروف اللازمة للظرفية من نحو ـ مع ، وسحر ـ لأن الشيء إذا علم في موضع جاز حذفه ، والتحقيق أن الظروف محل التوسع لكثرة استعمالهم إياها وكل ظرف يستعمل مع حرف صلته التي يكثر معها استعمالها ـ لأن اتصالها بمظروفها بتلك الحروف ـ فجاز حذفها كما جاز حذف ـ في ـ إلا أنها لما كانت الأصل لوضعها للظرفية اطرد حذفها من المتصرفة وغير المتصرفة ، وغيرها من صلات الظروف لا يحذف إلا مع ما يكثر من غير المتصرفة حطا لرتبتها عن رتبة ـ في ـ كما في الكشف ، واستدل بالآية على جواز الكرامة للأولياء لأن مريم لا نبوة لها على المشهور ، وهذا هو الذي ذهب إليه أهل السنة والشيعة وخالف في ذلك المعتزلة ، وأجاب البلخي منهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصا وتأسيسا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأجاب الجبائي بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام ، ورد الأخير بأن اشتباه الأمر عليه يأبى ذلك ، ولعله مبني على الظاهر ، وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الأمر الاشتباه نظر لأنه يجوز أن يكون لاظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه ، والقول ـ بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشيء كما لا يخفى (قالَتْ) استئناف كالذي قبله (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) قيل : أرادت من الجنة ، وقيل : مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب ولا تستبعد ، وقيل : تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد جمع من تكلم كذلك فبلغوا أحد عشر نفسا ، وقد نظمهم الجلال السيوطي فقال :
تكلم في المهد النبي «محمد» |
|
«ويحيى ، وعيسى ، والخليل ، ومريم» |
ومبري «جريج» ثم «شاهد يوسف» |
|
«وطفل لذي الأخدود» يرويه مسلم |
«وطفل» عليه مر بالأمة التي |
|
يقال لها تزني ولا تتكلم |
وماشطة في عهد فرعون «طفلها» |
|
وفي زمن الهادي «المبارك» يختم |
أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) لأني سيد المحبين (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق ، وروح الروح بلذة العشق ، واستغراق الحواس في بحر الأنس ، وظهارة النفس بمياه القدس ، ورؤية الحبيب بعين الكل ، وغمض عين الكل عن الكونين ، وطيران السر في غيب الغيب ، وتخلق المحب بخلق المحبوب ـ وهذا أصل المحبة ـ وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفاء ، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات ، والمراقبات ، واستنشاق نفحات الصفات ، والتواضع والذل في الحركات والسكنات :
مساكين أهل العشق حتى قبورهم |
|
عليها تراب الذل بين المقابر |
وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم