(حِفْظُهُما) في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه (وَهُوَ الْعَلِيُ) الشأن الذي لا تقيده الأكوان (الْعَظِيمُ) الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لاطلاقه حتى عن قيد الإطلاق.
(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قيل : إن هذه إلى قوله سبحانه : (خالِدُونَ) من بقية آية الكرسي ، والحق أنها ليست منها بل هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله ، والجملة على هذا خبر باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا ، وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه وهو حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩] وهو المحكي عن ابن مسعود. وابن زيد. وسليمان بن موسى ، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية ـ وهو المحكي عن الحسن ، وقتادة. والضحاك ـ وفي سبب النزول ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى فيه ذلك».
وأل في (الدِّينِ) للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي دين الله وهو ملة الإسلام ، وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى ، من الناس من قال : إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل مبني الأمر على التمكين والاختيار ولو لا ذلك لما حصل الابتلاء ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وإلى ذلك ذهب القفال (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ و ـ الرشد ـ بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر ـ رشد ـ بفتح الشين يرشد بضمها : ويقرأ بفتح الراء والشين ، وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض ـ الغي ـ وأصله سلوك طريق الهلاك ، وقال الراغب ، هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد ، والغيّ اعتبارا بالأفعال ، ولهذا قيل : زوال الجهل بالعلم ، وزوال الغيّ بالرشد ، ويقال لمن أصاب : رشد ، ولمن أخطأ غوى ، ويقال لمن خاب : غوى أيضا ، ومنه قوله :
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره |
|
ومن يغو لم يعدم على الغي (لائما) |
(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب ، والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم ـ وبه قال مجاهد ، وقتادة ـ وعن سيعد بن جبير ، وعكرمة أنه الكاهن ، وعن أبي العالية أنه الساحر ، وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون الله تعالى ، وعن بعضهم الأصنام ، والأولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى ، ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت ، واختلف فيه فقيل : هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان ـ وإلى ذلك ذهب الفارسي ـ وقيل : هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير ـ وإليه ذهب سيبويه ـ وقيل : هو جمع ـ وهو مذهب المبرد. وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧] وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول الطغيان. والثاني الطغوان ، وأصله على الأول طغيوت ، وعلى الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت ، وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعي أو للاتصال بلفظ الغي