غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره ، وقيل : المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتها (فَأَهْلَكَتْهُ) عن آخره ولم تدع له عينا ولا أثرا عقوبة لهم على معاصيهم ، وقيل : تأديبا من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من الخلاصة والمجموع ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو المشبه به كقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) [يونس : ٢٤] وإلا لوجب أن يقال : كمثل حرث لأنه المشبه به المنفق ، وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح والمهلك اسم مفعول هو الحرث ، والوجه عند كونه مركبا قلة الجدوى والضياع ، ويجوز أن يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح ، والمنفق بالحرث وجعل الله تعالى أعمالهم هباء منثورا بما في الريح الباردة من جعله حطاما ، وقرئ ـ تنفقون ـ بالتاء (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها على غير الوجه اللائق المعتد به ، وإما للقوم المذكورين أي ما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم استحقوا ذلك وحينئذ يكون هذا النفي مع قوله تعالى : (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) تأكيدا لما فهم من قبل إشعارا وتصريحا ، وقرئ «ولكنّ» بالتشديد على أن أنفسهم اسمها ، وجملة (يَظْلِمُونَ) خبرها والعائد محذوف ، والتقدير يظلمونها وليس مفعولا مقدما كما في قراءة التخفيف ، واسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في الشعر كقوله :
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه |
|
ولكن من يبصر جفونك يعشق |
وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي تدخل عليها النواسخ وتقديم أنفسهم على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الآية ، وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين من أهل المدينة نهى المؤمنون أن يتولوهم ، وظاهر ما يأتي يؤيده ، والبطانة خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذ من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث و (مِنْ) متعلقة ب (لا تَتَّخِذُوا) أو بمحذوف وقع صفة لبطانة ، وقيل : زائدة و ـ دون ـ إما بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء ، وضمير الجمع المضاف إليه للمؤمنين والمعنى (لا تَتَّخِذُوا) الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته ، منزلتكم في الشرف والديانة ، والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصا فإن اتخاذ المخالف وليا مظنة الفتنة والفساد ولهذا ورد تفسير هذه البطانة بالخوارج.
وأخرج البيهقي ، وغيره عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ولا تستضيئوا بنار المشركين» فذكر ذلك للحسن فقال : نعم لا تنقشوا في خواتيمكم محمد رسول الله ولا تستسروا المشركين في شيء من أموركم ، ثم قال الحسن : وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أصل الألو التقصير يقال : ألا كغزا ـ يألو ألوا إذا قصر وفتر وضعف ، ومنه قول امرئ القيس :