أحد لما فيه من كمال المزية والشرف والعز ، أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده ، وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر بمعنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم عزمت الأمر ـ كما نقله الراغب ـ والأشهر عزمت على الأمر ، ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى ، ومما يؤيد صحة النسبة أنه قرئ «فإذا عزمت» بضم التاء وهو حينئذ بمعنى الإرادة والإيجاب ، ومنه قول أم عطية رضي الله تعالى عنها : نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة ، وقولهم : عزمات الله تعالى ـ كما نقله الأزهري ـ ومن هذا الباب قول الفقهاء : ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة ، والجملة تعليل لجواب واقع موقعه كأنه قيل : «وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم» أو فقد أحسنتم ، أو نحوهما (فَإِنَّ ذلِكَ) إلخ ، وجوز أن يكون (ذلِكَ) إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فحينئذ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط ، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى ، وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشارت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال وبنزولها نسخ ذلك ، وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال ، وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه ، وأخرج الواحدي عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله ابن أبيّ ـ وذلك قبل أن يسلم عبد الله فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشي المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال : لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبيّ : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، وقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون فلم يزل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ، ثم ركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له : يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب ـ يريد عبد الله بن أبيّ ـ قال : كذا وكذا فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك فعفا عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله تعالى الآية.
وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلىاللهعليهوسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي صلىاللهعليهوسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون ومنهم المشركون ومنهم اليهود فأراد النبي صلىاللهعليهوسلم أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشدّ الأذى فأمر الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى (وَلَتَسْمَعُنَ) الآية.
وفي رواية أخرى عن الزهري أن كعبا هذا كان يهجو النبي صلىاللهعليهوسلم ويشبب بنساء المؤمنين فقال صلىاللهعليهوسلم : من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله فخرج هو ورضيعه أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة وأتوا برأسه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم آخر الليل وهو قائم يصلي ثم إنه سبحانه بين بعض أذيات أهل الكتاب بقوله عز قائلا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والمراد بهم إما أحبار اليهود خاصة ـ وإليه ذهب ابن جبير ـ وهو المروي عن ابن عباس من طريق عكرمة وإما ما يشملهم وأحبار النصارى ـ وهو المروي عنه من طريق علقمة ـ وإنما ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب