وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : آية من كتاب الله تعالى ما وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى : أيحب أحدكم أن تكون له (١) إلخ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها فقال له عمر : فلم تحقر نفسك؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذا مثل ضربه الله تعالى فقال. أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورقّ عظمه وكان أحوج ما يكون إلى أن يختم عمله بخير عمل يعمل أهل الشقاء فأفسد عمله فأحرقه قال : فوقعت على قلب عمر وأعجبته.
وفي رواية البخاري ، والحاكم ، وابن جرير ، وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) إلخ؟ قالوا : الله تعالى أعلم فغضب عمر فقال : قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ضربت لرجل غني عمل بطاعة الله تعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله ، قيل : وهذا أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمنّ والأذى والرياء ، وفصل عنه لاتصاله بما ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له ، وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور ، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعلموا بموجبها ، أو لعلكم تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما أتاكم الله تعالى منها وترغبون في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ) أي جياد أو حلال (ما كَسَبْتُمْ) أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد وعروض التجارة والمواشي.
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في (طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) : من الذهب والفضة وفي قوله تعالى : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة ، والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته وأعاد (مِنْ) في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل ، أو للتأكيد ـ ولعله أولى ـ وترك ذكر ـ الطيبات ـ لعلمه مما قبله ، وقيل : لعلمه مما بعد ، وبعض جعل (ما) عبارة عن ذلك (وَلا تَيَمَّمُوا) أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف ، وقرأ عبد الله ولا تأمموا ، وابن عباس تيمموا بضم التاء والكل بمعنى (الْخَبِيثَ) أي الرديء وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق ـ بتنفقون ـ والتقديم للتخصيص ، والجملة حال مقدرة من فاعل (تَيَمَّمُوا) أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه ، أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق ، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة.
فعن عبيدة السلماني قال : سألت عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذه الآية فقال : نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة إعطاء من الرديء فقال الله تعالى : (وَلا
__________________
(١) كذا في الأصل ، والقراءة في مصاحفنا (أَيَوَدُّ).