واللواطة زنا فظاهر ، وأما على تقدير عدم التسمية فلأن ذكر ما يمكن قياسهما عليه في حكم البيان لحكمهما ، وكم حكم ترك التصريح به في الكتاب اعتمادا على القياس ـ كحكم النبيذ ، وكحكم الجد وغيرهما ـ اعتمادا على بيان ما يمكن القياس عليه وذلك لا ينافي كونه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] وأنه ما فرط فيه من شيء ، ومن ادعى أن جميع الأحكام الدينية مذكورة في القرآن صريحا من غير اعتبار قياس ، فقد ارتكب شططا وقال غلطا ، وبالجملة المعول عليه ما ذهب إليه الجمهور ، ويد الله تعالى مع الجماعة ، ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد بمحل إلا أنه لم يعوّل عليه ولم تحط رحال القبول لديه ، وهذا ما عندي في تحقيق المقام وبالله سبحانه الاعتصام.
ولما وصف سبحانه نفسه بالتواب الرحيم عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة بقوله جل شأنه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي إن قبول التوبة ، و (عَلَى) وإن استعملت للوجوب حتى استدل بذلك الواجبة عليه ، فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات كما يقال : واجب الوجود ، وقيل : (عَلَى) بمعنى من ، وقيل : هي بمعنى عند ، وعليه الطبرسي أي إنما التوبة عند الله (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) أي المعصية صغيرة كانت أو كبيرة ، والتوبة مبتدأ ، و (لِلَّذِينَ) خبره ، و (عَلَى اللهِ) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن في متعلق الجار الواقع خبرا على رأي من يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفا ، وجعله بعضهم على حد هذا بسرا أطيب من رطبا ، وجوز أن يكون (عَلَى اللهِ) متعلقا بمحذوف وقع صفة للتوبة أي (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) الكائنة (عَلَى اللهِ) و (لِلَّذِينَ) هو الخبر ، وهو ظاهر على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته ، وذكر أبو البقاء احتمال أن يكون (عَلَى اللهِ) الخبر ، و (لِلَّذِينَ) متعلقا بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر ، ويحتمل أن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر ، ولا يخفى أن سوق الآية يؤيد جعل (لِلَّذِينَ) خبرا كما لا يخفى على من لم يتعسف (بِجَهالَةٍ) حال من فاعل (يَعْمَلُونَ) أي (يَعْمَلُونَ السُّوءَ) متلبسين بها ، أو متعلق (يَعْمَلُونَ) والباء للسببية ، والمراد من الجهالة الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم خلافا للجبائي فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة ، والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب كقوله :
ألا (لا يجهلن) أحد علينا |
|
فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
ومن هنا قال مجاهد فيما أخرجه عنه البيهقي في الشعب ، وغيره : كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته ، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمدا كان أو غيره ، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقال أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه : كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه ، فقد حكى الله تعالى قول يوسف عليهالسلام لإخوته : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) [يوسف : ٨٩] فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى ، وقال الفراء : معنى قوله سبحانه : (بِجَهالَةٍ) أنهم لا يعلمون كنه ما في المعصية من العقوبة.
وقال الزجاج : معنى ذلك اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبئ عنه ما سيأتي من قوله تعالى : (حَتَّى إِذا حَضَرَ) إلخ يروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها : «من تاب قبل موته بسنة تاب الله تعالى عليه» ثم قال : «وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله تعالى عليه» ثم قال : «وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله تعالى