ليذهبوا ببعض ما آتوهن بأن يختلعن بمهورهن ، وإلى هذا ذهب الكثير من المفسرين ـ وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ـ والالتئام عليه ظاهر ، وجوز أن يكون الخطاب الأول للورثة ، وهذا الخطاب للأزواج ، والكلام قد تم بقوله سبحانه : (كَرْهاً) فلا يرد عليه بعد تسليم القاعدة أنه لا يخاطب في كلام واحد اثنان من غير نداء ، فلا يقال : قم واقعد خطابا لزيد وعمرو ، بل يقال : قم يا زيد ، واقعد يا عمرو ، وقيل : هذا خطاب للأزواج ولكن بعد مفارقتهم منكوحاتهم ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها.
والمراد من قوله سبحانه : (لِتَذْهَبُوا) إلخ أن يدفعن إليكم بعض ما آتيتموهن وتأخذوه منهن ، وإنما لم يتعرض لفعلهن لكونه لصدوره عن اضطرار منهن بمنزلة العدم ، وعبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ، والاذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب لأنه عبارة عن الذهاب مصطحبا به ، وذكر ـ البعض ـ ليعلم منه أن الذهاب بالكل أشنع شنيع (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) على صيغة الفاعل من بين اللازم بمعنى تبين أو المتعدي ، والمفعول محذوف أي مبينة حال صاحبها.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «مبيّنة» على صيغة المفعول ، وعن ابن عباس أنه قرأ «مبيّنة» على صيغة الفاعل من أبان اللازم بمعنى تبين أو المتعدي ، والمراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلق ـ قاله قتادة والضحاك وابن عباس وآخرون ـ ويؤيده قراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم ، وفي الدر المنثور نسبة هذه القراءة ـ لكن بدون عليكم ـ إلى أبيّ وابن مسعود ، وأخرج ابن جرير عن الحسن أن المراد بها الزنا.
وحكي ذلك عن أبي قلابة وابن سيرين ، والاستثناء قيل : منقطع ، وقيل : متصل وهو من ظرف زمان عام أي لا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إيتائهن إلخ ، أو من حال عامة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال ، أو من علة عامة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإيتائهن ولا يأبى هذا ذكر العلة المخصوصة لجواز أن يكون المراد العموم أي للذهاب وغيره ، وذكر فرد منه لنكتة أو لأن العلة المذكورة غائية والعامة المقدرة باعثة على الفعل متقدمة عليه في الوجود ، وفي الآية إباحة الخلع عند النشوز لقيام العذر بوجود السبب من جهتهنّ.
وحكي عن الأصم أن إباحة أخذ المال منهن كان قبل الحدود عقوبة لهن.
وروي مثل ذلك عن عطاء ، فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك الحدود ، وذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم أن هذا متعلق بالعضل بمعنى الحبس والإمساك ، ولا تعرض له بأخذ المال ففيه إباحة الحبس لهن إذا أتين بفاحشة ـ وهي الزنا عند الأول ـ والسحاق عند الثاني ، فالآية على نحو ما تقدم من قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَعاشِرُوهُنَ) أي خالقوهن (بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة ، والمراد هاهنا النصفة في القسم والنفقة ، والإجمال في القول والفعل.
وقيل : المعروف أن لا يضربها ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها ، وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له ، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كنّ ممن لا يخدمن أنفسهن ، والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم ، وجعله بعضهم مرتبطا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) وفيه بعد (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) كالصحبة والإمساك.