واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بيّن ، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه ـ وبعد التجوز ليس على ظاهره ـ لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر البتة معهما ، وقوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا ـ والتزام توجيه مثل ذلك ، وعرضه في سوق القبول ـ لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول ، ولقد رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار ـ إحدى ـ معرضا بما ذكره المغربي فقال :
يا رأس أهل العلوم السادة البررة |
|
ومن نداه على كل الورى نشره |
ما سر تكرار ـ إحدى ـ دون تذكرها |
|
في آية لذوي الاشهاد في البقرة |
وظاهر الحال إيجاز الضمير على |
|
تكرار (إِحْداهُما) لو أنه ذكره |
وحمل الاحدى على نفس الشهادة في |
|
أولاهما ليس مرضيا لدى المهرة |
فغص بفكرك لاستخراج جوهره |
|
من بحر علمك ثم ابعث لنا درره |
«فأجاب القاضي» :
يا من فوائده بالعلم منتشره |
|
ومن فضائله في الكون مشتهره |
يا من تفرد في كشف العلوم لقد |
|
وافى سؤالك والأسرار مستتره |
(تضل إحداهما) فالقول محتمل |
|
كليهما فهي للاظهار مفتقره |
ولو أتى بضمير كان مقتضيا |
|
تعيين واحدة للحكم معتبره |
ومن رددتم عليه الحل فهو كما |
|
أشرتم ليس مرضيا لمن سبره |
هذا الذي سمح الذهن الكليل به |
|
والله أعلم في الفحوى بما ذكره |
وقرئ «أن تضلّ» بالبناء للمفعول والتأنيث ، وقرئ ـ «فتذاكر» ـ وقرأ ابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو ، والحسن ـ «فتذكر» ـ بسكون الذال وكسر الكاف ، وحمزة (أَنْ تَضِلَ) على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين ، والفاء في الجزاء قيل : لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة ، وقيل : لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء وتركه ، وقيل : الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير ـ الذاكرة ـ و (إِحْداهُما) بدل عنه أو عن الضمير في (فَتُذَكِّرَ) وقال بعض المحققين : الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما ـ تذكر إحداهما الأخرى ـ وعليه كلام كثير من المعربين ، والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبأ لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لأداء الشهادة أو لتحملها ـ وهو المروي عن ابن عباس ، والحسن رضي الله تعالى عنهم ـ وخص ذلك مجاهد. وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة ، و (ما) صلة وهي قاعدة مطردة بعد (إِذا وَلا تَسْئَمُوا) أي تملوا أو تضجروا ، ومنه قول زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش |
|
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم |