فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين ، وقيل : هو صفة لشهيدين ـ وضعف بالفصل الواقع بينهما ، وقيل : بدل من ـ رجالكم ـ بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا ، واختار أبو حيان تعلقه ـ باستشهدوا ـ ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله ـ وهو كما ترى ـ والخطاب للمؤمنين وقيل : للحكام ولم يقل من المرضيين لافهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر (مِنَ الشُّهَداءِ) متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب.
(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن ، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك ، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد ، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار ، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا ، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى : (فَتُذَكِّرَ) قيل : والنكتة في إيثار (أَنْ تَضِلَ) إلخ على ـ أن تذكر إن ضلت ـ الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه ، و (إِحْداهُما) الثانية يجوز أن تكون فاعل ـ تذكر ـ وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية ، ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر ـ والأخرى ـ فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى ـ كما وهم ـ حتى يتعين الأول بل من قبيل ـ أرضعت الصغرى الكبرى ـ لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا ـ كما قيل ـ عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي ، وذكر غير واحد أن العدول عن ـ فتذكرها ـ الأخرى ـ وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش ـ إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال ـ بإحداهما ـ بعينها والتذكير بالأخرى ، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير (إِحْداهُما) الأولى راجعا إلى الشهادتين ، وضمير (إِحْداهُما) الأخرى إلى المرأتين فالمعنى ـ أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما ـ وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال : ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه : (ضَلُّوا عَنَّا) [الأعراف : ٣٧] أي ضاعوا منا ، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشيء إذ لا يكون لاحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام ، وما ذكر في التأييد ينبئ عن قلة الاطلاع على اللغة.
ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي ، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وغيرهم ، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل : إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى (فَتُذَكِّرَ) إلخ فتجعل إحداهما اخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى