(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربا سواه ، وقيل : أخلص توجهه له سبحانه ، وقيل : بذل وجهه له عزوجل في السجود ، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي ، والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه ، و (دِيناً) نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير : ومن دينه أحسن من دين من أسلم إلخ ، فيؤول الكلام إلى تفضيل دين على دين ، وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة البشرية ، و (مِمَّنْ) متعلق بأحسن وكذا الاسم الجليل ، وجوز فيه أن يكون حالا من (وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي آت بالحسنات تارك للسيئات ، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي ، وقد صح أنهصلىاللهعليهوسلم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة والسلام : «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، وقيل : الأظهر أن يقال : المراد (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عقيدته ، وهو مراد من قال : أي وهو موحد ، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال ، والجملة في موضع الحال من فاعل (أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها ، وهذا عطف على (أَسْلَمَ) وقوله سبحانه : (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الزائفة حال من (إِبْراهِيمَ).
وجوز أن يكون حالا من فاعل (اتَّبَعَ وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليهالسلام ، والإيذان بأنه نهاية في الحسن ، وإظهار اسمه عليهالسلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح ، ولا يجوز العطف خلافا لمن زعمه على (وَمَنْ أَحْسَنُ) إلخ سواء كان استطرادا أو اعتراضا ، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى :
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) وبيانا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة ، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان ، ولا على صلة (مَنْ) لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أظهر من أن يخفى ، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر ، والعطف على (حَنِيفاً) لا يصح إلا بتكلف ، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء ، وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية ، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال :
قد تخللت مسلك الروح مني |
|
ولذا سمي الخليل خليلا |
فإذا ما نطقت كنت حديثي |
|
وإذا ما سكت كنت الغليلا |
وإما من الخلل كما قيل : على معنى أن كلّا من الخليلين يصلح خلل الآخر ، وإما من الخلة بالفتح ، وهو الطريق في الرمل لأنهما يتوافقان على طريقة ، وإما من الخلة بفتح الخاء إما بمعنى الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق ، وقد جاء ـ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ـ أو بمعنى الفقر والحاجة لأن كلّا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن عنه ، وإطلاقه على إبراهيم عليهالسلام قيل : لأن محبة الله تعالى قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة ، أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى ، ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن إليه ولو كان كافرا ، فإن من صفات الله تعالى الإحسان إلى البر والفاجر ، وفي بعض الآثار ـ ولست على يقين في صحته ـ أنه عليهالسلام نزل به ضيف من غير أهل ملته فقال له : وحد الله تعالى حتى أضيفك وأحسن إليك ، فقال : يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي فانصرف عنه. فأوحى الله تعالى : إليه يا إبراهيم صدقك لي سبعون سنة أرزقه وهو يشرك بي ، وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه إبراهيم عليهالسلام وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه فقال له المشرك : يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال : إن ربي عاتبني فيك ، وقال : أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي وأنت تريد أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك : أو قد وقع هذا؟! مثل هذا ينبغي أن يعبد فأسلم ورجع مع