يرضاه وهذا أبعد مما قبله ، والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك ، وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد ، وقيل : التراضي التخيير بعد البيع ، أخرج عبد ابن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسا له فقال لصاحبه : اختر فخيره ثلاثا ، ثم قال له : خيرني فخيره ثلاثا ، ثم قال : سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : هذا البيع عن تراض.
(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر ، وقد ورد في الحديث «المؤمنون كالنفس الواحدة» وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي ؛ وقيل : المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب ، وقيل : المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر ، وحكي ذلك عن البلخي.
وقيل : المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه ، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وقيل : المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم ، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب ، وقيل : المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وأيد بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال : «لما بعثني النبي صلىاللهعليهوسلم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت : نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ولم يقل شيئا» ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ولا تقتلوا» بالتشديد للتكثير ، ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملاءمة لما أن المال شقيق النفس من حيث إنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها ، والملاءمة بين النهيين على قول مالك أتم ، وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهي عنه فيه.
(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) تعليل للنهي ، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة ، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس ، وقيل : معناه أنه كان بكم يا أمة محمد رحيما إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي قتل النفس فقط ، أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل ، أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] ، أو من أول السورة إلى هنا أقوال : روي الأول منها عن عطاء ـ ولعله الأظهر ـ وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد ، وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق. (عُدْواناً) أي إفراطا في التجاوز عن الحد ، وقرئ «عدوانا» بكسر العين (وَظُلْماً) أي إيتاء بما لا يستحقه ، وقيل هما بمعنى فالعطف للتفسير ، وقيل : أريد بالعدوان التعدي على الغير ، وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب ، وأيّا ما كان فهما منصوبان على الحالية ، أو على العلية ، وقيل : وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) أي ندخله إياها ونحرقه بها ، والجملة جواب الشرط. وقرئ «نصليه» بالتشديد ، و «نصليه» بفتح النون من صلاه لغة كأصلاه ، ويصليه بالياء التحتانية والضمير لله عزوجل ، أو لذلك ، والإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب.
(وَكانَ ذلِكَ) أي إصلاؤه النار يوم القيامة (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع ، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي (إِنْ