في التوراة خاصة ، ويشهد لذلك أيضا حديث البخاري «أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به» وخالف في ذلك بعض الفضلاء ، ففي الملل والنحل للشهرستاني جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليهالسلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليهالسلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما ، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام ، وحمل المخالف هذه الآية على وليحكموا (بِما أَنْزَلَ اللهُ) تعالى فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة ، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلىاللهعليهوسلم.
(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية ـ وهو القرآن العظيم ـ فاللام للعهد ، والجملة عطف على (أَنْزَلْنا) وما عطف عليه ، وقوله تعالى : (بِالْحَقِ) حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسا بالحق والصدق ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (أَنْزَلْنا) ، وقيل : حال من الكاف في (إِلَيْكَ) وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) حال من (الْكِتابَ) أي حال كونه مصدقا لما تقدمه ، وقد تقدم الكلام في كيفية تصديقه لذلك ، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد ، وأوجب كونه حالا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله ، وقوله سبحانه : (مِنَ الْكِتابِ) بيان (لِما) واللام فيه للجنس بناء على ادعاء أن ما عدا الكتب السماوية ليست كتابا بالنسبة إليها. ويجوز ـ كما قال غير واحد ـ أن تكون للعهد نظرا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر ، ومن الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) قال الخليل وأبو عبيدة : أي رقيبا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم : أي شاهدا عليه بأنه الحق ، والعطف حينئذ للتأكيد ؛ وهاؤه أصلية ، وفعله هيمن ، وله نظائر ـ بيطر وخيمر وسيطر ـ وزاد الزجاج : بيقر ، ولا سادس لها ، وقيل : إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن ـ كهراق ـ وقال المبرد وابن قتيبة : إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى ، فصغر وأبدلت همزته هاء ، وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا تصغر ، وكذا كل اسم معظم شرعا ، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرءا (مُهَيْمِناً) بفتح الميم على بنية المفعول فضمير (عَلَيْهِ) على هذا يعود على الكتاب الأول ، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل ، والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الكتاب ـ كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه ، والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية ، وتقديم (بَيْنَهُمْ) للاعتناء بتعميم الحكم لهم ، ووضع الموصول موضع الضمير تنبيها على علية ما في حيز الصلة للحكم ، وترهيبا عن المخالفة ، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارا (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) الزائغة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) الذي لا محيد عنه ، وعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل : لا تعدل (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ)