قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها ، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا ، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها ، ومفعول ـ أكلوا ـ محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك : فلان يعطي ويمنع ، و (مِنْ) في الموضعين لابتداء الغاية.
وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل ، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي ، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض ، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذا به النجاة السرمدية والنعيم المقيم ، وخولف بين العبارتين ، فقيل : أولا : (آمَنُوا وَاتَّقَوْا) وثانيا (أَقامُوا) ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل : ويشبه أن يكون (ما) في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم ، فكأنه قيل في حقهم : (لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا) لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا ، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفّر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلىاللهعليهوسلم وغيره ، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام ، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله ، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص ، وجعلها كالشرطية الأولى ، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية ـ كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا ـ لا أظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحسبه حاسما لما يقال ، والقول ـ بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ لا لو أقام بعضهم ـ لا أراه إلا منكرا من القول وزورا.
وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه : (لَأَكَلُوا) إلخ بقوله : لوسع عليهم الرزق ، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها ، ولم يجعله شاملا لرزق الدارين ، ولو حمل على الترقي ، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطا وجزاء لكان وجها انتهى ، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه ، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء ، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين ، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة ـ كما روي عن الربيع ـ وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلىاللهعليهوسلم ـ كما قال مجاهد والسدي وابن زيد ـ واختاره الجبائي ، وأولئك ـ كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود ـ وثمانية وأربعون من النصارى ، وقيل : المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل : هل كلهم مصروف على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل : (مِنْهُمْ) إلخ ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد ، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) وهم الأجلاف المتعصبون ـ ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم ..
(ساءَ ما يَعْمَلُونَ) من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه.