(وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ذوي عدد كثير ، وأولي شأن خطير ، يعرفونهم ذلك ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) أي بما لا تميل إليه من الشرائع ومشاق التكاليف ، والتعبير بذلك دون بما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمهم ، وكلمة (كُلَّما) كما قال أبو حيان : منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى ما المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط ، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول ، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير الجازم فهي مثل ـ إذا ـ ولا بعد فيه ، وجوابها ـ كما قيل ـ قوله تعالى : (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ).
وقيل : الجواب محذوف دل عليه المذكور ، وقدره ابن المنير استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً) [البقرة : ٨٧] إلخ ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم ، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح ، وهو القتل على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى ، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه بواسطة المناصبة ، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظرا إليه في نفسه لاقتضاء المقام ، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل : استكبرتم فناصبتم (فَفَرِيقاً) إلخ ، وفيه نظر ، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب ، وجعل الزمخشري هذا القول متعينا لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل ، أي ـ كلما جاءهم رسول من الرسل ـ والمذكور بقوله سبحانه : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) إلخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما تدافع ، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل ـ إن أكرمت أخي ، أخاك أكرمت ـ لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول ، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل ، ولأن تقديم المفعول على ما قيل : يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط ، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء ، وقيل : فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما ، فلو كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو ، ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر إلى هذه الموانع ، قال بعض المحققين : أما الأول فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق ، وقيل : المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير ؛ ويؤيده (كُلَّما) الدالة على الكثرة ، وأما الثاني فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله ، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها ولا يوجد مثله في كتب النحو ، ومنه يعلم دفع الأخير ، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا ، وقد قال في شرح التسهيل : ويجوز أن ينطلق خيرا يصب ـ خلافا للفراء ـ فقال شراحه : أجاز سيبويه ، والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه ، وأنشد الكسائي :
وللخير أيام فمن يصطبر لها |
|
ويعرف لها أيامها الخير يعقب |
تقديره يعقب الخير ، ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم ، وقال : بل يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء ، وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام ، كأنه قال : أيامها الصالحة.
واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه ، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصا ، وقوة المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى.
والجملة الشرطية صفة (رُسُلاً) والرابط محذوف أي رسول منهم ، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين.
واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل كأنه قيل : فما ذا فعلوا بالرسل؟ فقيل : كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم