عليهم دانيال عليهالسلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال ، وذلك قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) [الإسراء : ٦] ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم ، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى ، وقصدهم قتل عيسى عليهمالسلام ، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولا إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل ، وثانيا إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية ، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليهالسلام ، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليهالسلام بأعصار ، وكذا القول ـ على زعمه ـ في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليهالسلام حين توجه للمناجاة ، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها وحمل (ثُمَ) للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه ، وقيل : إن العمى والصمم أولا إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهماالسلام ، وثانيا إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلىاللهعليهوسلم من الكفر والعصيان ، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته ، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى ، وقرئ (عَمُوا وَصَمُّوا) بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم ، كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنيزك ، وركبته إذا ضربته بركبتك ، وقوله تعالى : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير في الفعلين ، وقيل : هو فاعل والواو علامة الجمع لا ضمير ، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة ـ بأكلوني البراغيث ـ أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم.
وقيل : أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيرا وهو خلاف الظاهر ، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره ، وضعف بأن الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل ، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرا مستترا إذ لا التباس فيما إذا كان بارزا ، والتباسه بالفاعل في لغة ـ أكلوني البراغيث ـ لم يعتبروه مانعا لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها ، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل ، نحو ـ أنا قمت ـ فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل ، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر ، وإنما قال سبحانه : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) لأن بعضا منهم لم يكونوا كذلك (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل ، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ؛ ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل ، ولا يخفى موقع (بَصِيرٌ) هنا مع قوله سبحانه : (عَمُوا). (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) شروع في تفصيل قبائح النصارى ، وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود ، وقائل ذلك : طائفة منهم كما روي عن مجاهد ، وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما تقدم فتذكر (وَقالَ الْمَسِيحُ) حال من فاعل (قالُوا) بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به ، أي قالوا ذلك ، «و ـ قد ـ قال المسيح» عليهالسلام مخاطبا لهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فإني مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أي شيئا في عبادته سبحانه ، أو فيما