يختص به من الصفات والأفعال ـ كنسبة علم الغيب وإحياء الموتى بالذات ـ إلى عيسى عليهالسلام (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) لأنها دار الموحدين ، والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم ، فالتحريم مجاز مرسل ، أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية المهابة (وَمَأْواهُ النَّارُ) فإنها المعدة للمشركين ، وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب ، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضي لإدخاله النار (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار : وإدخالهم الجنة ، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة ، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين.
وقيل : ليعلم نفي الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير ، فكيف ينصرهم الواحد منهم؟!.
وقيل : إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصارا كثيرة ، فنفي ذلك تهكما بهم ، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما أن إفراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها ، وإما للجنس وهم يدخلون فيه دخولا أوليا ، ووضعه على الأول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك ، وعدلوا عن طريق الحق ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وهو إما من تمام كلام عيسى عليهالسلام ، وإما وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليهالسلام وتقريرا لمضمونها (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم ، وقد تقدم لك من هم ، و (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) لا يكون إلا مضافا كما قال الفراء ، وكذا ـ رابع أربعة ـ ونحوه ، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة ، ولو قلت : ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلا جاز الأمران : الإضافة والنصب.
وقد نص على ذلك الزجاج أيضا ، وعنوا بالثلاثة ـ على ما روي عن السدي ـ الباري عز اسمه ، وعيسى وأمه عليهماالسلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم ، والإلهية مشتركة بينهم ، ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليهالسلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى: (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة ـ لأنه مبدأ جميع الموجودات ـ (إِلَّا إِلهٌ) موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه ، إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية ـ كما يدل عليه برهان التمانع ـ فإذا نافت الألوهية مطلق التعدد ، فما ظنك بالتثليث؟ و (مِنْ) مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة ، وقالوا في وجهه : لأنها في الأصل (مِنْ) الابتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي ، فأصل لا رجل : لا (مِنْ) رجل إلى ما لا نهاية له.
وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك ، وقيل : إنهم يقولون ، الله سبحانه جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، ويعنون بالأول الذات ، وقيل : الوجود وبالثاني العلم ، وبالثالث الحياة ، وإن منهم من قال بتجسمها ، فمعنى قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) لا إله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها ، وقد مرّ تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه ، فارجع إن أردت ذلك إليه (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه ، وهو التوحيد والإيمان (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جواب قسم محذوف سادّ مسد جواب الشرط ـ على ما قاله أبو البقاء ـ والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر ـ كما اختاره الجبائي والزجاج ـ وإما النصارى كما قيل ، ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر ، و «من» على هذا بيانية ، وعلى الأول تبعيضية ، وإنما جيء بالفعل المنبئ عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه ـ بعد ورود ما ورد مما يقتضى القلع عنه ـ كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر ، والاستفهام في قوله تعالى : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) للإنكار ، وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم مبادرتهم