إلى التوبة ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفروه بتنزيهه تعالى عما نسبوه إليه عزوجل ، أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا ، والجملة في موضع الحال ، وهي مؤكدة للإنكار والتعجيب ، والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير مرة.
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) استئناف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه ، وبيان حقيقة حاله عليهالسلام وحال أمه بالإشارة أولا إلى ما امتازوا به من نعوت الكمال حتى صارا من أكمل أفراد الجنس ، وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما وبين أفراد البشر ، بل أفراد الحيوانات ، وفي ذلك استنزال لهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار ، وإرشاد إلى التوبة والاستغفار أي هو عليهالسلام مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها إلى ما يزعم النصارى فيه عليه الصلاة والسلام ، وهو قوله سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية ، فإن خلو الرسل قبله منذر بخلوه ، وذلك مقتض لاستحالة الألوهية أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها ، ولعل ما خص به غيره أعجب وأغرب مما خصه به ، فإنه عليه الصلاة والسلام إن أحيا من مات من الأجسام التي من شأنها الحياة ، فقد أحيا موسى عليه الصلاة والسلام الجماد ، وإن كان قد خلق من غير أب ، فآدم عليه الصلاة والسلام قد خلق من غير أب وأم ، فمن أين لكم وصفه بالألوهية؟! (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللواتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به ، فمن أين لكم وصفها بما عرى عنه أمثالها؟! والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله تعالى ، وقيل : صدقها في براءتها مما رمتها به اليهود ، والمراد بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) [التحريم : ١٢].
وروي هذا عن الحسن ، واختاره الجبائي ، وقيل : تصديقها بالأنبياء ، والصيغة كيفما كانت للمبالغة ـ كشريب ورجح كونها من الصدق بأن القياس في صيغ المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد أنها من المضاعف ، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام والعطف ـ كما قال العلامة الثاني ـ وتوقف في ذلك بعضهم ، وليس في محله ، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليهاالسلام ، وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف ما لها الصديقية ، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المعرض ، فلو كان لها عليهاالسلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك ، نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام ، وهذا أمر آخر لا ضرر له فيما نحن بصدده (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) استئناف لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر ، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به البدن من الغذاء ، فالمراد من ـ أكل الطعام ـ حقيقته ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقيل : هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض ، وهذا أمرّ ذوقا في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية ، وليس المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه ، قيل : والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال ، وتأخير ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلىاللهعليهوسلم لئلا توحشه مفاجأته بذلك ، وقوله تعالى :
(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بين