لهم حقيقة الحال بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب ، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام ، أو لكل من له أهلية ذلك ، و (كَيْفَ) معمول ـ لنبين ـ والجملة في موضع النصب معلقة للفعل قبلها ، والمراد من (الْآياتِ) الدلائل أي ـ انظر كيف نبين لهم الدلائل ـ القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون.
(ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم ، والكلام فيه كما مر فيما قبله ، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ، و (ثُمَ) لإظهار ما بين العجبين من التفاوت ، أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح ، وإعراضهم عنها ـ مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها ـ أعجب وأبدع ، ويجوز أن تكون على حقيقتها ، والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده ، أي إنهم مع طول زمان ذلك لا يتأثرون ، و (يُؤْفَكُونَ).
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم ، والمراد بما لا يملك عيسى ، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام ، والمعنى أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب والصحة والسعة ، أو أتعبدون شيئا لا استطاعة له أصلا ، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات ، وإنما قال سبحانه : (مَا) نظرا إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته ، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأسا ، وتنبيها على أنه من هذا الجنس ، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها ، وقيل : إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى ـ كالأصنام وغيرها ـ فغلب ما لا يعقل على من يعقل تحقيرا ، وقيل : أريد بها النوع كما في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣].
وقيل : يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب ـ فما ـ على بابها ، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير ، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقوله سبحانه وتعالى :
(وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) في موضع الحال من فاعل (أَتَعْبُدُونَ) مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد ، والواو هو الواو ، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه ، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة ، وقد يقال : المعنى (أَتَعْبُدُونَ) العاجز (وَاللهُ هُوَ) الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء ، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وفرق بين الوجهين بأن (ما) على هذا الوجه للتحقير ، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن (ما) للوصف والحال مقررة لذلك ، وعلى الأول للتحقير المجرد ، والحال كما علمت فافهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بإرادة الجنس من المحلى بال على لسان النبي صلىاللهعليهوسلم.
واختار الطبرسي كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) أي لا تجاوزوا الحدّ ، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظيمة ، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليهاالسلام ، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليهالسلام ، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع ، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب