للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم (غَيْرَ الْحَقِ) نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق ـ أي باطلا ـ وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب ، وقال بعض المحققين : إنه للتقييد ، وما ذكره الراغب غير مسلم ، فإن الغلو قد يكون غير حق ، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية.
وفي الكشاف الغلو في الدين غلوان : حق ـ وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد ـ وغلو باطل ـ وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الأهواء والبدع ـ انتهى ، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد ، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين ، وما ذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا ، وجوز أن يكون (غَيْرَ) حالا من ضمير الفاعل أي (لا تَغْلُوا) مجاوزين الحق ، أو من دينكم أي (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) حال كونه باطلا منسوخا ببعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم في شريعتهم ، ـ والأهواء ـ جمع هوى وهو الباطل الموافق للنفس ، والمراد لا توافقوهم في مذاهبهم الباطلة التي لم يدع إليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أي أناسا كثيرا ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا إليه من البدعة والضلالة ، أو إضلالا كثيرا ، والمفعول به حينئذ محذوف (وَضَلُّوا) عند بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم ووضوح محجة الحق وتبين مناهج الإسلام (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي قصد السبيل الذي هو الإسلام ، وذلك حين حسدوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكذبوا وبغوا عليه ، فلا تكرار بين (ضَلُّوا) هنا و (ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) ، والظاهر أن (عَنْ) متعلقة بالأخير ، وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال الثلاثة ، ويراد ـ بسواء السبيل ـ الطريق الحق ، وهو بالنظر إلى الأخير دين الإسلام ، وقيل : في الإخراج عن التكرار أن الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل ، والثاني إلى ضلالهم عما جاء به الشرع ، وقيل : إن ضمير (ضَلُّوا) الأخير عائد على ـ الكثير ـ لا على (قَوْمٍ) والفعل مطاوع للإضلال ، أي ـ إن أولئك القوم أضلوا كثيرا من الناس ، وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك لهم ـ فلا تكرار ، وقيل : أيضا قد يراد ـ بالضلال ـ الأول الضلال بالغلو في الرفع والوضع مثلا وكذا بالإضلال ، ويراد ـ بالضلال عن سواء السبيل ـ الضلال عن واضحات دينهم وخروجهم عنه بالكلية ، وقال الزجاج : المراد بالضلال الأخير ضلالهم في الإضلال أي ـ إن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم ـ كقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] ، ونقل هذا ـ كالقيل الأول ـ عن الراغب ، وجوز أيضا أن يكون قوله سبحانه وتعالى : (عَنْ سَواءِ) متعلقا ب (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره ، كقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على ما ذهب إليه غيرهم ، والله تعالى أعلم بمراده (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي لعنهم الله تعالى ، وبناء الفعل لما لم يسم فاعله للجري على سنن الكبرياء ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل (كَفَرُوا) ، وقوله سبحانه وتعالى : (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) متعلق ـ بلعن ـ أي لعنهم جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين النبيين عليهماالسلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما ـ ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهمالسلام ، وعن الزجاج أن المراد أن داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام أعلما بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وبشرا به وأمرا باتباعه ولعنا من كفر به من بني