في القرآن وكلام العرب غالب استعمالها مع العقلاء في الأولاد ، وقوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣] من غير الغالب أو المراد فيه هبة نبوته لا هبة ذاته وهو شيء آخر ، ولقوله تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) فإنه ظاهر في أن ما بشر به عين ما استوهبه مع أن مثله إنما يقال عرفا في حق الأولاد ، ولقد جمع بهذا القول بشارات أنه ذكر لاختصاص الغلام به وأنه يبلغ أو أن البلوغ بالسن المعروف فإنه لازم لوصفه بالحليم لأنه لازم لذلك السن بحسب العادة إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وذلك إغضاء في كل أمر ، وجوز أن يكون ذلك مفهوما من قوله تعالى (غلام) فإنه قد يختص بما بعد البلوغ وإن كان ورد عاما وعليه العرف كما ذكره الفقهاء وأنه يكون حليما وأي حلم مثل حلمه عرض عليه أبوه وهو مراهق الذبح فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فما ظنك به بعد بلوغه ، وقيل مانعت الله تعالى نبيا بالحلم لعزة وجود غير إبراهيم وابنه عليهماالسلام ، وحالهما المذكورة فيما بعد تدل على ما ذكر فيهما.
والفاء في قوله تعالى (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه ، و «مع» ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها ، وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤول بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث ، أما أولا فلأن التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف ، وأما ثانيا فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به ، وأما ثالثا فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره.
وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفا كان المصدر أو منكرا كقوله تعالى (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) [النور : ٢] وهو الذي ارتضاه الرضى وقال به العلامة الثاني ، واختار صاحب الفرائد كونها متعلقة بمحذوف وقع حالا من (السَّعْيَ) أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائنا معه ، وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه ، وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليهالسلام ولا يطابق المقام ، وجوز تعلقه ببلغ ، ورد بأنه يقتضي بلوغهما معا حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح ، وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقا بأخلاقه متطبعا بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه ، ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (بَلَغَ) ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس (أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [النمل : ٤٤] فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا ، تقديم (مع) إشعارا منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد ، قال صاحب الكشف : وهذا معنى صحيح جمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة ، وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معا على معنى أنه عليهالسلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى.