يتسنى هذا إلا إذا أريد من مكة ما يشمل بدرا ، و (مَهْزُومٌ) خبر بعد خبر ، وأصل الهزم غمز الشيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القثاء والبطيخ ومنه الهزيمة لأنه كما يعبر عنه بالحطم والكسر ، والتعبير عما لم يقع باسم المفعول المؤذن بالوقوع على ما في بعض شروح الكشاف للإيذان بشدة قربه حتى كأنه محقق ، و (مِنَ الْأَحْزابِ) صفة (جُنْدٌ) أي هم جند قليلون أذلاء أو كثيرون عظماء كائنون هنالك من الكفار المتحزبين على الرسل مكسورون عن قريب أو جند من الأحزاب مكسورون عن قريب في مكانهم الذي تكلموا فيه بما تكلموا فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون. وقال أبو البقاء (جُنْدٌ) مبتدأ وما زائدة وهنالك نعت وكذا من الأحزاب ومهزوم خبر ، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعد التفلتة عن الكلام الذي قبله ، واعتبر الزمخشري الحصر أي ما هم إلا جند من المتحزبين مهزوم عن قريب لا يتجاوزون الجندية المذكورة إلى الأمور الربانية ، وهو حسن إلا أنه اختلف في منشأ ذلك فقيل : إنه كان حق الجند أن يعرف لكونه معلوما فنكر سوقا للمعلوم مساق المجهول كأنه لا يعرف منهم إلا هذا القدر وهو أنهم جند بهذه الصفة.
وقال صاحب الكشف : إنه التفخيم المدلول عليه بالتنكير ، وزيادة ما الدالة على الشيوع وغاية التعظيم لدلالتهما على اختصاص الوصف بالجندية من بين سائر الصفات كأنه لا وصف لهم غيرها ، وفيه منع ظاهر ، ويفهم كلام العلامة الثاني أنه اعتبار كون (جُنْدٌ) خبرا مقدما لمبتدإ محذوف لأن المقام يقتضي الحصر فتدبر ولا تغفل.
وجعل الزمخشري (هُنالِكَ) الموضوع للإشارة إلى المكان البعيد مستعارا للمرتبة من العلو والشرف على أنه إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كما في قولهم لمن انتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك ؛ وفيه إيماء إلى علة الذم ؛ وجوز على هذا أن تكون ما نافية أي هم جند ليسوا حيث وضعوا أنفسهم.
وتعقب بأنه مما لم يقله أحد من أهل العربية ولا يليق بالمقام وفيه بحث ، وجوز أن تكون (هُنالِكَ) إشارة إلى الزمان البعيد وهي كما قال ابن مالك قد يشار بها إليه نحو قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) [يونس : ٣٠] وتتعلق بمهزوم ، والكلام اخبار بالغيب إما عن هزيمتهم يوم الفتح أو يوم بدر كما تقدم حكايته أو يوم الخندق ولا يخفى ما فيه ، وقيل : إشارة إلى زمان الارتقاء في الأسباب أي هؤلاء القوم جند مهزوم إذا ارتقوا في الأسباب وليس بالمرضي ، وقيل : ما اسم موصول مبتدأ وهنالك في موضع الصلة وجند خبر مقدم ومهزوم ومن الأحزاب صفتان وهما المقصودان بالإفادة وما هنالك إشارة إلى مكة ، والمراد من الذين فيها المشركون والتعبير عنهم بما لأنهم كالأنعام بل هم أضل ، وقيل الأصنام وعبدتها ، وأمر التعبير بما عليه أظهر ويقال فيه نحو ما قاله أبو حيان في كلام أبي البقاء وزيادة لا تخفى.
وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) إلى آخره استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة مما فعلوا من التكذيب وفعل بهم من العقاب ، و (ذُو الْأَوْتادِ) صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد ، و (الْأَوْتادِ) جمع وتد وهو معروف ، وكسر التاء فيه أشهر من فتحها ويقال وتد واتد كما يقال شغل شاغل قاله الأصمعي وأنشد :
لاقت على الماء جذيلا واتدا |
|
ولم يكن يخلفها المواعدا |
وقالوا : ود بإبدال التاء دالا والإدغام ووت بإبدال الدال تاء ، وفيه قلب الثاني للأول وهو قليل ، وأصل إطلاق ذلك على البيت المطنب بأوتاده وهو لا يثبت بدونها كما قال الأعشى :
والبيت لا يبتنى إلا على عمد |
|
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد |