الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة ، وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان في الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال والقائل على ما روي عن عطاء النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال الله تعالى فيه (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١] وأبو جهل على ما روي عن قتادة ، وعلى القولين الباقون راضون فلذا جيء بضمير الجمع ، والقط القطعة من الشيء من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس ، ومن ذلك قول الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته |
|
بنعمته يعطي القطوط ويطلق |
قيل وهو في ذلك أكثر استعمالا وقد فسره بها هنا أبو العالية والكلبي أي عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها وهي رواية عن الحسن ، وجاء في رواية أخرى عنه أنهم أرادوا نصيبهم من الجنة ، وروي هذا أيضا عن قتادة وابن جبير ، وذلك أنهم سمعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يذكر وعد الله تعالى المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء : عجل لنا نصيبنا منها لنتنعم به في الدنيا ، قال السمرقندي : أقوى التفاسير أنهم سألوا أن يعجل لهم النعيم الذي كان يعده عليه الصلاة والسلام من آمن لقولهم ربنا ولو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب أو الكتاب استهزاء لسألوا رسول الله ولم يسألوا ربهم ، وفيه بحث يعلم مما مر آنفا.
(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) على ما يتجدد من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) أي اذكر لهم قصته عليهالسلام تعظيما للمعصية في أعينهم وتنبيها لهم على كمال قبح ما اجترءوا عليه فإنه عليهالسلام مع علو شأنه وإيتائه النبوة والملك لما ألم بما هو خلاف الأولى ناله ما ألمه وأدام غمه وندمه فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين أو اذكر قصته عليهالسلام في نفسك وتحفظ من ارتكاب ما يوجب العتاب ، وقيل إنه تعالى أمره عليه الصلاة والسلام أن يذكر قصص الأنبياء عليهمالسلام الذين عرض لهم ما عرض فصبروا حتى فرج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم ، ترغيبا له في الصبر وتسهيلا لأمره عليه وإيذانا ببلوغ ما يريده بذلك ، وهو كما ترى ، وقيل أمره بالصبر وذكر قصص الأنبياء ليكون ذلك برهانا على صحة نبوته صلىاللهعليهوسلم ، والذكر على هذا والأول لساني وعلى ما بينهما قلبي وهو مراد من فسر (اذْكُرْ) على ذلك بتذكر (ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وذو آد وأياد بمعنى وأياد كل شيء ما يتقوى به.
(إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع إلى الله تعالى وطاعته عزوجل ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : الأواب المسبح ، وعن عمرو بن شرحبيل أنه المسبح بلغة الحبشة ، وأخرج الديلمي عن مجاهد قال : سالت ابن عمر عن الأواب فقال : سألت النبي صلىاللهعليهوسلم عنه فقال : هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى ، وهذا إن صح لا يعدل عنه ، والجملة تعليل لكونه عليهالسلام ذا الأيد وتدل بأي معنى كان الأواب فيها على أن المراد بالأيد القوة الدينية وهي القوة على العبادة كما قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم إذ لا يحسن التعليل لو حملت القوة على القوة في الجسم ، نعم قد كان عليهالسلام قوي الجسم أيضا إلا أن ذلك غير مراد هنا ؛ وفي التعبير عنه بعبدنا ووصفه بذي الأيد والتعليل بما ذكر دلالة على كثرة عبادته ووفور طاعته.
وقد أخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا ذكر داود وحدث عنه قال : كان أعبد البشر ، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا ينبغي لأحد أن يقول إني أعبد من داود» وروي أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان يقوم نصف الليل وفي ذلك دلالة على قوته في العبادة لما في كل من الصيام والقيام المذكورين من ترك راحة تذكرها قريبا.