عبادنا وضعا للجنس موضع الجمع فتتحد القراءتان (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين على أن الأيدي مجاز مرسل عن القوة ، والأبصار جمع بصر بمعنى بصيرة وهو مجاز أيضا لكنه مشهور فيه أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة على أن ذكر الأيدي من ذكر السبب وإرادة المسبب ، والأبصار بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من العلوم كالأول أيضا ، وفي ذلك على الوجهين تعريض بالجهلة البطالين أنهم كفاقدي الأيدي والأبصار وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكنهم منهما ، وقيل : الأيدي النعم أي أولى التي أسداها الله تعالى إليهم من النبوة والمكانة أو أولى النعم والإحسانات على الناس بإرشادهم وتعليمهم إياهم ، وفيه ما فيه. وقرئ «الأيادي» على جمع الجمع كاوطف واواطف ، وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش «الأيد» بغير ياء فقيل يراد الأيدي بالياء وحذفت اجتزاء بالكسرة عنها ، ولما كانت أل تعاقب التنوين حذفت الياء معها كما حذفت مع التنوين حكاه أبو حيان ثم قال : وهذا تخريج لا يسوغ لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر ، وقيل : الأيد القوة في طاعة الله تعالى نظير ما تقدم ، وقال الزمخشري بعد تعليل الحذف بالاكتفاء بالكسرة وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن وعلل بأن فيه فوات المقابلة وفوات النكتة البيانية فلا تغفل (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) تعليل لما وصفوا به ، والباء للسببية وخالصة اسم فاعل وتنوينها للتفخيم ، وقوله تعالى : (ذِكْرَى الدَّارِ) بيان لها بعد ابهامها للتفخيم ، وجوز أن يكون خبرا عن ضميرها المقدر أي هي ذكرى الدار ، وأيا ما كان فذكرى مصدر مضاف لمفعوله وتعريف الدار للعهد أي الدار الآخرة ، وفيه إشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا مجاز أي جعلناهم خالصين لنا سبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها هي تذكرهم دائما الدار الآخرة فإن خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم إياها وذلك لأن مطمح أنظارهم ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون ويذرون جوار الله عزوجل والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا في الآخرة.
وقيل أخلصناهم بتوفيقهم لها واللطف بهم في اختيارها والباء كما في الوجه الأول للسببية والكلام نحو قولك : أكرمته بالعلم أي بسبب أنه عالم أكرمته أو أكرمته بسبب أنك جعلته عالما ، وقد يتخيل في الثاني أنه صلة ، ويعضد الوجه الأول قراءة الأعمش وطلحة «بخالصتهم».
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أن ذكرى الدار تذكيرهم الناس الآخرة وترغيبهم إياهم فيها وتزهيدهم (١) إياهم فيها على وجه خالص من الحظوظ النفسانية كما هو شأن الأنبياء عليهمالسلام ، وقيل المراد بالدار الدار الدنيا وبذكراها الثناء الجميل ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. وحكي ذلك عن الجبائي. وأبي مسلم وذكره ابن عطية احتمالا ، وحاصل الآية عليه كما قال الطبرسي إنا خصصناهم بالذكر الجميل في الأعقاب.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ونافع وهشام بإضافة «خالصة» إلى «ذكرى» للبيان أي بما خلص من ذكرى الدار على معنى أنهم لا يشوبون ذكراها بهم آخر أصلا أو على غير ذلك من المعاني ، وجوز على هذه القراءة أن تكون «خالصة» مصدرا كالعاقبة والكاذبة مضافا إلى الفاعل أي أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار. وظاهر كلام أبي حيان أن احتمال المصدرية ممكن في القراءة الأولى أيضا لكنه قال : الأظهر أن تكون اسم فاعل (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) أي المختارين من بين أبناء جنسهم ، وفيه إعلال معروف.
وعندنا يجوز فيه أن يكون من صلة الخبر وأن يكون من صلة محذوف دل عليه (لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) أي
__________________
(١) وتزهيدهم إياهم فيها كذا في خط المؤلف رحمهالله وعبارة الكشاف تذكيرهم الناس الآخرة وترغيبهم فيها وتزهيدهم في الدنيا.