وتنوينه للتفخيم أي للمحسنين في الدنيا حسنة في الآخرة أي حسنة والمراد بها الجنة ، وقوله عزوجل : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) جملة معترضة إزاحة لما عسى أن يتوهم من التعلل في التفريط بعدم التمكن في الوطن من رعاية الأوامر والنواهي على ما هي عليه ، وقوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) من تتمة الاعتراض فكأنه قيل : اتقوا ربكم فإن للمحسنين في هذه الدنيا الجنة في الأخرى ولا عذر للمفرطين في الإحسان بعدم التمكن في الأوطان فإن أرض الله تعالى واسعة وبلاده كثيرة فليتحولوا إن لم يتمكنوا عنها وليهاجروا إلى ربهم لنيل الرضوان فإن لهم في جنب ذلك ما يتقاصر عنه الجنة ويستلذ له كل محنة وكأنه لما أزاح سبحانه علتهم بأن في أرض الله تعالى سعة وقع في خلدهم هل نكون نحن ومن يتمكن من الإحسان في بلدته فارغ البال رافع الحال سواء بسواء فأجيبوا إنما يوفى الصابرون الذين صبروا على الهجرة ومفارقة المحاب والاقتداء بالأنبياء والصالحين أجرهم بغير حساب ، وأصله إنما توفون أجوركم بغير حساب على الخطاب وعدل عنه إلى المنزل تنبيها على أن المقتضي لذلك صبرهم فيفيد أنكم توفون أجوركم بصبركم كما وفي أجر من قبلكم بصبرهم وهو محمول على العموم شامل للصبر على كل بلاء غير مخصوص بالصبر على المهاجرة لكنه إنما جيء به في الآية لذلك وليشمل الصابرين على ألم المهاجرة شمولا أوليا ، والجار والمجرور في موضع الحال إما من الأجر أي إنما يوفون أجرهم كائنا بغير حساب وذلك بأن يغرف لهم غرفا ويصب عليهم صبا ، وأما من الصابرين أي إنما يوفون ذلك كائنين بغير حساب عليه ، والمراد على الوجهين المبالغة في الكثرة وهو المراد بقول ابن عباس لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف ، وجوز جعل الحال من الصابرين على من لا يحاسبون أصلا ، والمتبادر ما يفيد المبالغة في كثرة الأجر ، ومعنى القصر ما يوفي الصابرون أجرهم إلا بغير حساب جعل الجار والمجرور حالا من المنصوب أو المرفوع لأن القصر في الجزء الأخير ، وفيه من الاعتناء بأمر الأجر ما فيه ، وأما اختصاصه بالصابرين دون غيرهم فمن ترتب الحكم على المشتق ، وهذا ونقل عن السدي أن قوله تعالى : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلق بحسنة من حيث المعنى فقيل : هو حينئذ حال من (حَسَنَةٌ) ورد بأنها مبتدأ ولا يجوز الحال منه على الصحيح ، فإن قيل : يلتزم جعلها فاعل الظرف قيل : لا يتسنى إلا على مذهب الأخفش وهو ضعيف.
وقيل حال من الضمير المستتر في الخبر الراجع إلى (حَسَنَةٌ) وقال الزمخشري : هو بيان لحسنة والتقدير هي في الدنيا ، والمراد بها الصحة والعافية أي للمحسنين صحة وعافية في الدنيا ، قال في الكشف : وإنما آثر كونه بيانا مع جواز كونه حالا عن الضمير الراجع إلى (حَسَنَةٌ) في الخبر لأن المعنى على البيان لا على التقييد بالحال وذلك لأن المعنى على هذا الوجه أن للمحسنين جزاء يسيرا في الدنيا هو الصحة والعافية وإنما توفية أجورهم في الآخرة ولو قيد بالحال لم يلائم على ما لا يخفى ، وحق قوله تعالى : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) على هذا أن يكون اعتراضا ازاحة لما قد يختلج في بعض النفوس من خلاف ذلك الجزاء بواسطة اختلاف الهواء والتربة وغير ذلك مما يؤدي إلى آفات في البدن فقيل وأرض الله تعالى واسعة فلا يعدم أحد محلا يناسب حاله فليتحول عنه إليه إن لم يلائمه ثم يكون فيه تنبيه على أن من جعل الأرض ذات الطول والعرض قطعا متجاورات تكميلا لانتعاشهم وارتياشهم يجب أن تقابل نعمه بالشكر ليعدوا من المحسنين ثم قيل : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) أي توفية الأجر لهؤلاء المحسنين إنما يكون في الآخرة والذي نالوه في الدنيا عاجل حظهم وأما الأجر الموفى بغير حساب فذلك للصابرين ، ومن سلبناه تلك العاجلة تمحيصا له وتقريبا وفي ذلك تسلية لأهل البلاء وتنشيط للعباد على مكابدة العبادات وتحريض على ملازمة الطاعات ثم قال : وهذا أيضا وجه حسن دقيق والرجحان للأول من وجوه:
أحدها أن الاعتراض لإزاحة العلة في التفريط أظهر لأنه المقصود من السياق على ما يظهر من قوله تعالى: (اتَّقُوا رَبَّكُمْ). الثاني أنه المطابق لما ورد في التنزيل من نحو (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء :