الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها ، فيحمده المؤمنون لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل ، ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول : رب أرحني ولو إلى النار ، وقيل : إنهم يحمدونه إظهارا للرضا والتسليم.
وقال ابن عطية : هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ، ومن هذه الآية جعلت (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خاتمة المجالس في العلم ، هذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آل وصحبه أجمعين.
«ومن باب الإشارة في بعض الآيات» (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي اعبده تعالى بنفسك وقلبك وروحك مخلصا ، وإخلاص العبادة بالنفس التباعد عن الانتقاص ، وإخلاص العبادة بالقلب العمى عن رؤية الأشخاص ، وإخلاص العبادة بالروح نفي طلب الاختصاص. وذكر أن المخلص من خلص بالجود عن حبس الوجود (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) فيه إشارة إلى تهديد من يدعي رتبة من الولاية ليس بصادق فيها وعقوبته حرمان تلك الرتبة (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) فيه إشارة إلى أحوال السائرين إلى الله سبحانه من القبض والبسط والصحو والسكر والجمع والفرق والستر والتجلي وغير ذلك (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) قيل : يشير إلى ظلمة الإمكان وظلمة الهيولى وظلمة الصورة (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) يشير إلى القيام بآداب العبودية ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) رضاه سبحانه عنه وقربه عزوجل (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) قدر معبودهم جل شأنه فيطلبونه (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيطلبون ما سواه (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) حقيقة الأمر (أُولُوا الْأَلْبابِ) وهم الذين انسلخوا من جلد وجودهم وصفوا عن شوائب أنانيتهم (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) بي شوقا إلى (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) فلا تطلبوا غيره سبحانه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) في طلب في هذه الدنيا بأن لم يطلبوا مني غيري (حَسَنَةٌ) عظيمة وهي حسنة وجداني (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) وهي حضرة جلاله وجماله فإنها لا نهاية لها فليسر فيها ليرى ما يرى ولا يظن بما فتح عليه انتهاء السير وانقطاع الفيض (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على صدق الطلب (أَجْرَهُمْ) من التجليات بغير حساب إذ لا نهاية لتجلياته تعالى و (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩] (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بطلب ما سواه (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو عذاب القطيعة والحرمان (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) فلا أطلب دنيا ولا أخرى كما قيل :
وكل له سؤل ودين ومذهب |
|
ولي أنتم سؤل وديني هواكم |
(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي الذين تبين خسران أنفسهم بإفساد استعدادها للوصول والوصال (وَأَهْلِيهِمْ) من القلوب والأسرار والأرواح بالإعراض عن طلب المولى (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي تتبين فيه الحقائق (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الذي لا خفاء فيه لفوات رأس المال وعدم إمكان التلافي ، وقال بعض الأجلة : إن للإنسان قوتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا ، والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالمقدمات وترتيبها على الوجه المؤدي إلى النتائج التي هي بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء ، والآلة في القسم العملي هو القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها ، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة ، فكل من أعطاه الله تعالى العقل والصحة والتمكين ثم إنه