رحمته عزوجل (لِلْمُوقِنِينَ) للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة ، وقرأ قتادة ـ آية ـ بالإفراد (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة ، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى ، وقيل : أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع ، ورواه عطاء عن ابن عباس ، وقيل : سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة ، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية ، وقيل : في الأخير (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي تقديره وتعيينه ، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادئ الرزق إلى غير ذلك ، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبّب ، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهو سماء لغة ، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروي تفسيره بذلك مرفوعا وقرأ ابن محيصن ـ أرزاقكم ـ على الجمع.
(وَما تُوعَدُونَ) عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد ، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك ـ ما توعدون ـ الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف ، وقال بعضهم : هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش ، وقيل : أمر الساعة ، وقيل : الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها ، وقيل : إنه مستأنف خبره.
(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) على أن ضمير (إِنَّهُ) ل (ما) وعلى ما تقدم ، فإما له أو للرزق ، أو لله تعالى ، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو للقرآن ، أو للدين في (إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٦] أو لليوم المذكور في (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) [الذاريات : ١٢] أو لجميع المذكور أما ما أقوال ، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروي عن ابن جرير أي إن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس : إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع ، ونصب (مِثْلَ) على الحالية من المستكن في (لَحَقٌ) وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير ، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقا مثل نطقكم ، وقيل : إنه مبني على الفتح فقال المازني : لتركبه مع (ما) حتى صارا شيئا واحدا نحو ـ ويحما ـ وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر :
أثور ما أصيدكم أو ثورين |
|
أم هذه الجماء ذات القرنين |
وقال غيره : لإضافته إلى غير متمكن وهو (ما) إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء ، أو موصولة بمعنى الذي و (أَنَّكُمْ) إلخ خبر مبتدأ محذوف أي هو (أَنَّكُمْ) إلخ ، والجملة صفة ، أو صلة ، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت (ما) زائدة ، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة (لَحَقٌ) أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم (مِثْلَ) بالرفع ، وفي البحر أن الكوفيين يجعلون ـ مثلا ـ ظرفا فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبا على الظرفية ـ واستدلالهم ، والرد عليهم مذكور على النحو ـ وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها : بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا» وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : ممن