عنده على حقيقته ، قال : روي أن جبريل عليهالسلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليهالسلام ، وقال : مر قومك يزنوا به. وفسره كثير بالعدل ، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليهالسلام الميقعة والسندان والكلبتان ، وروي أنه نزل ومعه المرّ والمسحاة ، وقيل : نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة ، وفسرت بالمسن ، وتجيء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها ، وقيل : ما تحدّ به الرحى ، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليهالسلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع ، وقيل : سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم.
واستظهر أبو حيان كون ـ ليقوم الناس بالقسط ـ علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم.
(وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب ، وقال ابن عباس : الكتاب الخط بالقلم ، وفي مصحف عبد الله ـ والنبية ـ مكتوبة بالياء عوض الواو (فَمِنْهُمْ) أي من الذرية ؛ وقيل : أي من المرسل إليهم المدلول عليه بذكر الإرسال والمرسلين (مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الطريق المستقيم ، ولم يقل ـ ومنهم ـ ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه ، وعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول وأصل التقفية جعل الشيء خلف القفا ، وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومها. وقيل : لمن عاصرهما من الرسل عليهمالسلام.
واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحا فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهماالسلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهماالسلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره ، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه ، وقيل : للذرية ، وفيه أن الرسل المقفي بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفي والمقفي به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) جعلناه بعد.
وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) بأن أوحينا إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة : وقرأ الحسن «الإنجيل» بفتح الهمزة ، وقال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له ، قال الزمخشري : وأمره أهون من من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولّد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم ، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) أي خلقنا أو صيرنا ـ ففي قلوب ـ في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا ، ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل : إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع ، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرئ رافة على فعالة كشجاعة (وَرَهْبانِيَّةً) منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية.
(ابْتَدَعُوها) فهو من باب الاشتغال ، واعترض بأنه يشترط فيه ـ كما قال ابن الشجري وأبو حيان ـ أن يكون