بعضهم جواز الاعراب السابق بناء على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا ، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل ، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون «حصونهم» فاعلا ـ لمانعتهم ـ لاعتماده على المبتدأ.
وجوز كون (مانِعَتُهُمْ) مبتدأ خبره (حُصُونُهُمْ) ، وتعقب بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية ، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل ، وكانت (حُصُونُهُمْ) على ما قيل أربعة : الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة ، وزاد بعضهم الوخدة (١) وبعضهم شقا ، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي أمره سبحانه ، وقدره عزوجل المتاح لهم (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) ولم يخطر ببالهم ؛ وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة ، وقيل : ضمير (فَأَتاهُمُ) و (لَمْ يَحْتَسِبُوا) للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ، وفيه تفكيك الضمائر.
وقرئ فآتاهم الله ، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما محذوف. أي فآتاهم الله العذاب أو النصر (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب ، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد ، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم.
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة ، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم ، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم ، وبهذا الاعتبار عطفت (أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) على ـ أيديهم ـ وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم ـ فيخربون ـ على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز ، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير (قُلُوبِهِمُ) أو لا محل لها من الإعراب ، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها.
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول ، وجوز أن يكون في الفاعل ، وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه ، فالإخراب يكون أثر التخريب ، وقيل : هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار ، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي ، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى ـ الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين ـ إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عزوجل بل توكلوا عليه سبحانه.
واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي ، قالوا : إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور
__________________
(١) قوله : الكتيبة التاء المثناة والتصغير. والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء وبالمهملة. والسلالم بضم السين ، وقيل : بفتحها. ويقال فيه : السلاليم. والنطاة من النطو. والوخدة بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة اه منه.