والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولذا قال ابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر ـ وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب ـ ثبتت مشروعية العمل بالقياس ، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق ، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣ ، النور : ٤٤] (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) [النحل : ٦٦] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال : إنه غير معتبر ، ولو كان القياس هو الاعتبار ـ لم يصح هذا السلب ـ سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة ـ فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي ـ سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم : إنه إذا قال لوكيله : أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم ، وإن كان أسود ، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم ، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم : اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال ـ وهو القياس. والآيتان على ذلك ـ ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا ، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة ، وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به ، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها ، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة ، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه ، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع ، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق.
هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال : قالوا : إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه ، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ، وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة ، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم ، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم ، وجلوا عنها خرجوا أو برزوا ، ويقال أيضا : جلاهم ؛ وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة ، ويقال فيه : الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبإ ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة ، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف ، وقد صرح بذلك الرضي ، وقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) استئناف غير متعلق بجواب (لَوْ لا) أي إنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة ؛ فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع ، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار ، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما