والكلام استئناف للإنكار عليهم ، وأنت تعلم أن الاستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه ظاهر كلامهم كالباء فيما تقدم ، وقوله تعالى : (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) في موضوع الحال ، و (أَعْلَمُ) أفعل تفضيل ، والمفضل عليه محذوف أي منكم ، وأجاز ابن عطية كونه مضارعا ، والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة ، و (ما) موصولة أو مصدرية ، وذكر (ما أَعْلَنْتُمْ) مع الاستغناء عنه للإشارة إلى تساوي العلمين في علمه عزوجل ، ولذا قدم (بِما أَخْفَيْتُمْ) وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل : تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار؟ (وَمَنْ يَفْعَلْهُ) أي الإسرار.
وقال ابن عطية وجمع : أي الاتخاذ (مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة (سَواءَ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ونصبه على المفعول به ـ لضل ـ وهو يتعدى كأضل ، وقيل : لا يتعدى ؛ و (سَواءَ) ظرف كقوله :
كما عسل الطريق الثعلب
(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي إن يظفروا بكم ، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ، ومنه رجل ثقف لقف ، وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقا (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى : (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف تفسيري ، فوقوع (يَكُونُوا) إلخ جواب الشرط بالاعتبار الذي أشرنا إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل ما في صدر السورة ، ومثله قول بعضهم : أي يظهروا ما في قلوبهم من العداوة ويرتبوا عليها أحكامها ، وقيل : المراد بذلك لازم العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنه قيل : إن يثقفوكم يظهر لكم عدم نفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم ، وقوله تعالى : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) عطف على الجواب وهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب ، ويؤول كما أول سابقه بأن يقال ـ على ما في الكشف ـ المراد ودادة يترتب عليها القدرة على الرد إلى الكفر ، أو يقال ـ على ما قال البعض ـ المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه ، والتعبير بالماضي وإن كان المعنى على الاستقبال للإشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم.
وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعض الأفراد ، فعبر بالماضي نظرا للأول وجعلت جوابا متأخرا نظرا للثاني ، وآثر الخطيب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية كقوله تعالى : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [الحشر : ١٢] في السورة قبل (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] عند جمع قال : لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد بالشرط فائدة ، وإلى ذلك ذهب أبو حيان ، وجوابه يعلم مما ذكرنا ، وقريب منه ما قيل : إن ودادة كفرهم بعد الظفر لما كانت غير ظاهرة لأنهم حينئذ سبي وخدم لا يعتدّ بهم فيجوز أن لا يتمنى كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الودادة قبل الظفر فيكون للتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة. وقال بعض الأفاضل : إن المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء : الأول أن يكون كل منهما جزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك. الثاني أن يكون الجزاء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسببا له مثلا نحو إذا جاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست غريمي لأستوفي حقي وأخليه. الثالث أن يكون المقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في الإياب. ومنه قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)