أنه (هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عزوجل ، والقاتل إنما ينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل الله تعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) من نوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عزوجل (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي تدفق في الرحم يقال : أمنى الرجل ومنى بمعنى ، وقال الأخفش : أي تقدر يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر ، ومنه المنا الذي يوزن به فيما قبل ، والمنية وهي الأجل المقدر للحيوان (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي الإحياء بعد الإماتة وفاء بوعده جل شأنه : وفي البحر لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى عليه كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وفي الكشاف قال سبحانه : (عَلَيْهِ) لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة وفيه مع كونه على طريق الاعتزال نظر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ـ النشاءة ـ بالمد وهي أيضا مصدر نشأة الثلاثي (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء ، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى : (أَغْنى) لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها ، وفي البحر يقال : قنيت المال أي كسبته ويعدى أيضا بالهمزة والتضعيف فيقال : أقناه الله تعالى مالا وقناه الله تعالى مالا ، وقال الشاعر :
كم من غني أصاب الدهر ثروته |
|
ومن فقير يقني بعد إقلال |
أي يقني المال ، وعن ابن عباس (أَغْنى) مول ، (وَأَقْنى) أرضى. وهو بهذا المعنى مجاز من القنية قال الراغب : وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية من الرضا والطاعة وذلك أعظم القنائن ، ولله تعالى در من قال :
هل هي إلا مدة وتنقضي |
|
ما يغلب الأيام إلا من رضي |
وعن ابن زيد والأخفش (أَقْنى) أفقر ، ووجه بأنهما جعلا الهمزة فيه للسلب والإزالة كما في أشكى ، وقيل : إنهما جعلا (أَقْنى) بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في (أَماتَ وَأَحْيا) و (أَضْحَكَ وَأَبْكى) وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير وأبو الشيخ قال (أَغْنى) نفسه سبحانه و «أفقر» الخلائق إليه عزوجل ، والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أن يكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل ، وعندي أن (أَغْنى) سبحانه نفسه كأوجد جل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور ، وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) هي (الشِّعْرى) العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعد الواو ، وتقال (الشِّعْرى) أيضا على الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناة تحتية وصاد مهملة ومد ، والأولى في الجوزاء ، وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذا طلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما تتبع الكلب الصائد أو الصيد ، والثانية في ذراع الأسد المبسوطة ، وإنما قيل لها الغميصاء لانها بكت من فراق سهيل فغمصت عينها ، والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق ، وذلك من زعم العرب أنهما أختا سهيل ، وفي القاموس من أحاديثهم أن الشعرى العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموص أيضا ، وقيل : زعموا أن سهيلا و (الشِّعْرى) كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعرى فعبرت المجرة فسميت العبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياء ، وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها ، والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرما وأكثر ضياء وهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية.