كان إعجازا لغويا فقط كما كانوا يظهرون؟ يقول الباقلاني (١) : «يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدّعوا فيها أنها من دلالاتهم وآياتهم ، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ويؤيّد بآية ، لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ولا بقول نفسه ولا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه ، فيستدل به على صدقه ، فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي وكانوا عاجزين عنها صحّ له به ما ادّعاه ، ولو كانوا غير عاجزين عنها لم يصح أن يكون برهانا له ، وليس يكون معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا بمثله ، فإذا تحدّاهم وبان عجزهم صار ذلك معجزا ، وإنما احتيج من باب القرآن إلى التحدي لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا ، فإنما يعرف إعجازه بطريق ، لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصوته ، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا ، فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه فيجب أن يعرف حتى يمكنه أن يستدل به».
إذن ، فالسابقون كانوا يحتاجون لمعرفة الإعجاز إلى دراسة وعلم ، رغم أن الإعجاز كان عندهم لغويا أكثر منه علميا ونظريات علمية ، فكيف الحال عندنا في الإعجاز العلمي؟
مما تقدم ، نرى أن الأقدمين لم يكونوا يعرفون الإعجاز بداهة بعد أن مضى عصر النبوة وبدأت الأبحاث في علوم القرآن تنتشر ، ودخل كثير من غير العرب في الإسلام ، وهم لهم ثقافات وعلوم ليست للعرب ، كما أنّ الفصاحة والبلاغة دخلها ضعف كثير ، من هنا كان يجب أن تقوم المؤلفات الكبيرة لمعرفة إعجاز القرآن ، فالذي لا يعرف إعجاز القرآن لا يصدّق أنه من الله ، وقد يعتبره كتابا من الكتب لأنه مؤلّف من حروف وكلمات وموضوع بين دفتي ورقة ، أما من يعرف إعجازه فإن إيمانه يتكامل مع القرآن على أنه كلام الله ومعجزة رسول الله ، وأنّ فيه اليقين الحق الذي لا يقين غيره ، ومن هنا أيضا تعددت أوجه إعجاز القرآن حتى عند القدماء أنفسهم الذين كان التحدي الأول لهم بلغته وبلاغته ومعانيه ، ولكن من أعجب العجب في هذا القرآن العظيم ، الذي جاء من ربّ العالمين لهداية الناس أجمعين ، أنه يدلّل على صدقه بنفسه في كل عصر وحين ، ويقول إنه سيفعل ذلك حتى يذعن له كل عقل سليم ، وكل عالم وحكيم ، بل ويزيد على ذلك بأن يعطي وعودا مستقبلية لما يحققه من إعجاز عبر كل زمن وعصر ، بما يحمله ذلك العصر والزمن من
__________________
(١) إعجاز القرآن ـ الباقلاني ، ص ٢٥٨.