جهة اليمين وانطلق الآخر إلى جهة اليسار ، مما جعل أندرسون حائرا في هذا المشهد ، إذ أن المسارين لألكترونين يقينا ، ولكن ما هو السبب الذي جعلهما يبتعدان ويفترقان أحدهما عن الآخر وكأن أحدهما عدو لقرينه؟ لم يتمكن أندرسون من معرفة السبب ، وذلك لأنه لم يكن قد اطلع ، وقت مشاهدته لهذه الظاهرة ، على معادلة ديراك الرياضية التي أشرنا إليها ، والتي كان قد نشرها قبل ثلاث سنوات في إحدى المجلات العلمية البريطانية ، إذ لو كان قد اطلع عليها لما تحيّر تلك الحيرة فيما رأى وشاهد. وجاء بعد أندرسون الأمريكي عالمان بريطانيان عرفا ما توصل إليه أندرسون عمليا بألواحه الحساسة ، كما عرفا المعادلة التي أشار إليها ديراك قبله نظريا ، وبجمعهما ، بين نتيجة أندرسون العملية ومعادلة ديراك الرياضية النظرية ، أدركا السر العظيم في مسار الإلكترونين ، وأشارا إلى أن معادلة ديراك التي تنبأت بخلق الزوجين صحيحة تماما ، على ما أثبته أندرسون بألواحه.
لقد كان ذلك اليوم الذي توصل فيه العلماء إلى تسجيل بداية خلق أصغر وأبسط زوجين في العالم ، كان يوما مشهودا في تاريخ العلم. ومن أجل هذا الاكتشاف المثير الذي توصل إليه ديراك ، من خلال معادلته العلمية الرياضية ، حصل على جائزة نوبل في العام التالي لتحقق ما تنبأت به معادلته ، وهو بالنسبة لنا نحن المسلمين يعتبر يوما مشهودا ، إذ أثبت فيه العلم الحديث ، في أدق مباحثه وأبدع اكتشافاته ، ما أخبر به القرآن الذي سبقت آياته معادلة ديراك بأربعة عشر قرنا ، إذ قال تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات / ٤٩] ، وقال (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦].
نعم ، ... إنه ليوم مشهود لنا نحن المسلمين ، إذ ثبت للعالم أجمع أن هذا القرآن لم يكن من صنع البشر ، وإنما هو الآية القاطعة الناطقة بأنه من صنع خالق الكون والإنسان والحياة ، والعالم بكل صغيرة وكبيرة مما خلق على أبدع نظام وأتم تقدير ، وهل هذا كل ما في الأمر بالنسبة للأزواج؟ .. الجواب ، لا. لم يقف الأمر عند هذا الحد الذي ذكرناه ، وذلك لأنه وضع أيدينا على سر جديد وهو أن هذا الكون ، في أرضه وسمائه وجزئياته وذراته ، ليس في الحقيقة إلا طاقة اتخذت صورة المادة بجسيماتها وذراتها ، وأن هذه الجسيمات حينما تجسدت تجسّدت على شكل زوجين ولم تتشكل مفردة. فمولد أو خلق الزوجين اللذين ظهرا على لوح أندرسون لم يظهرا من عدم ، بل كان من وراء تخليقهما طاقة ، أو ومضة ضوئية ، وهذه الومضة تنطلق على هيئة موجة ، وتجري في الكون بسرعة الضوء ، ١٨٦ ألف ميل في الثانية ،