وذلك أن كل جينة من هذه الجينات تعتبر معلومة مستقلة تعمل لتوريث الكائن الحي صفة محددة ، وبعد التعمق في تكوينها وجد أن هذه الجينة تتكون من شريط قد يفرد وقد يطوى ، فإذا أريد من الشريط أن يقوم بمهمته وينفذ خطته الوراثية المرسومة له انفرد واستقام ، وهو لدقته لا يكاد يرى ، إذ أن عرضه لا يزيد عن جزءين اثنين من مليون جزء من المليمتر ، فإذا ما انتهى من عمله طوى نفسه وعاد إلى ما كان عليه على الكروموسوم كحبّة ، أو عقدة صغيرة ، لكن هذه الجينة لم تتكون من شريط واحد وإنما تبين ، بالفحص والتدقيق ، أنها على هيئة شريطين اثنين يلتفّ أحدهما على الآخر ويحتضنه كالضفائر المجدولة ، وحتى هذه الضفائر كثيرا ما تأتي أزواجا على شكل زوجين اثنين ، ويلتف كل زوجين منها بالزوجين الآخرين ، على أنه قد تتكرر هذه العملية مرة ثالثة في زوج ثالث ... وهكذا نرى أن هذا الأمر قد فاق التصوّر ، وتجاوز حدود الخيال ، وكأن كل شيء في هذا الكون يقول (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦].
إن هذه الشرائط التي تتكون منها الجينة ، والتي جاءت على شكل شريطين مجدولين ، هي التي سجلت عليها الملايين والملايين من الصفات السرية للكائن الحي ، وكأنها كلمة السر فيه ، وهي التي حيّرت المفكرين والعباقرة وعلماء الحياة ، فما هو سر هذه الشرائط التي سجلت عليها ملايين الصفات ، والتي جاءت أزواجا ، وما هي حقيقتها ، وهل هي أيضا احتوت على سر آخر من الأزواج في تركيبها جاء وراء ظهورها أزواجا؟ .. الجواب نعم ، وبكل تأكيد طبقا لقانون الله الأزلي (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات / ٤٩] ... وهنا يصل العلم إلى خاتمة المطاف الذي ما بعده مطاف ألا وهو الزوجية في سر التركيب الأساسي لأشرطة الجين الزوجية ، وهو التركيب الأولي لوجودها الحيوي.
لقد تابع العلماء جهودهم في البحث عن حقيقة الجينة ومكوناتها إلى أن جاء العالمان (جيمس واتسون) ، المتخصص في علم البيولوجيا ، و (فرنسيس كريك) ، المتخصص في علم الفيزياء الكيميائية ، وتمكّنا عام ١٩٥٢ من اكتشاف حقيقة الأشرطة التي تتكوّن منها الجينة التي جاءت على شكل أزواج على شكل ضفائر مجدولة أو سلالم حلزونية ذات درجات متتابعة بعضها فوق بعض ، والتي تحتوي على أسرار الحياة بالنسبة للكائن الحي ، وبهذا الكشف وضعا أيديهما على أعظم سر من الأسرار التي تحمل صفات هذا الكائن الحي العجيب الغريب المعجز المذهل ، واستحقا بناء على ذلك جائزة نوبل.