على ما تقدرونه سجعا ، لكان مذموما مرذولا ؛ لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه ، واختلفت طرقه ، كان قبيحا من الكلام.
وللسجع منهج مرتب ، محفوظ ، وطريق مضبوط ، متى أخل به المتكلم أوقع الخلل في كلامه ، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة. كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود ، كان مخطئا ، وكان شعره مرذولا ، وربما أخرجه عن كونه شعرا. وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعا ، متقارب الفواصل ، متداني المقاطع ، وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه. وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير. وهذا في السجع غير مرضي ، ولا محمود. فإن قيل : متى خرج السجع المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه ، خرج من أن يكون سجعا. وليس على المتكلم أن يلتزم بأن يكون كلامه كله سجعا. بل يأتي به طورا ، ثم يعدل عنه إلى غيره ، ثم قد يرجع إليه.
قيل : متى وقع أحد مصراعي البيت مخالفا للآخر ، كان تخليطا وخبطا. وكذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام المسجع وتفاوت كان خبطا.
وعلم أن فصاحة القرآن غير مذمومة في الأصل ، فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا الوجه من الاضطراب. ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه ، لما تحيروا فيه ، وكانت الطباع تدعو إلى المعارضة ؛ لأن السجع غير ممتنع عليهم ، بل هو عادتهم. فكيف تنقص العادة بما هو نفس العادة. وهو غير خارج عنها ، ولا مميز منها. وقد يتفق في الشعر كلام على منهاج السجع وليس بسجع عندهم. وذلك نحو قول البحتري (١) :
تشكّى الوجى والليل ملتبس الدّجى |
|
عزيزية الأنساب مرت نقيعها |
وقوله :
قريب المدى حتى يكون إلى النّدى |
|
عدو البنا حتى يكون معالي |
ورأيت بعضهم يرتكب هذا ، فيزعم أنه سجع مداخل ، ونظيره من القرآن قوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) (٢) وقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) (٣) وقوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي
__________________
(١) البحتري هو : أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي ، ولد بمنبج من أعمال الشام ، وتخرج بها ، وانتقل إلى العراق في خدمة المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان ، وله الحرمة التامة حتى قتلا ، فرجع إلى منبج.
مات سنة (٢٨٤). له ترجمة في : شذرات الذهب ٢ / ١٨٦ ، ووفيات الأعيان ٢ / ١٧٥ ، والفهرست (١٦٥).
(٢) آية (٢٧) سورة النحل.
(٣) آية (١٦) سورة الإسراء.