والمسارعة فيهم أي فى أهل الكتاب : الانغماس فيهم ، ولهذا جاء اللفظ القرآنى بتعدية الفعل سارع بحرف الجرّ «فى» ، بدلا من تعديته بحرف الجر «إلى» الذي يتعدى به هذا الفعل غالبا .. كقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١٣٣) آل عمران.
وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» ما يكشف عن أن هؤلاء المنافقين ينغمسون فى أهل الكتاب ، ويدخلون فيهم دخولا كاملا ، حيث يحتويهم ظرف واحد ، إذ هم كيان واحد يألف بعضه بعضا.
وفى قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ) تشهير بهؤلاء المنافقين ، وفضح لهم ، وأنهم وإن لبسوا كل أثواب التخفّى ، لا يلبث أمرهم أن ينفضح وينكشف ، وأنهم بمرأى من النبي والمؤمنين ، ولهذا جاء الفعل «ترى» وكأنه يشير إليهم ، ويحدّد موقفهم الذي هم فيه فى الجبهة الأخرى ، جبهة أهل الكتاب .. وهكذا المنافق دائما ، إن لم يلتفت إليه أحد ، دلّ هو الناس عليه ، بكثرة التفاته إليهم وحذره منهم ، وصدق المثل الذي يقول : «يكاد المريب يقول خذونى!»
وقوله تعالى : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) هو ترجمة لهذه التصوّرات المريضة ، التي يعيش فيها المنافقون .. فهم أبدا على خوف وقلق ، لا يسكنون إلى أمر ، ولا يقيمون على رأى ، بل تراهم وأعينهم تدور هنا وهناك ، يريدون أن يجمعوا بين الشيء ونقيضه ، حتى إذا فاتهم هذا لم يفتهم ذاك .. فهم مع المؤمنين ، يخشون أن تكون الكرّة لأهل الكتاب .. وهم مع أهل الكتاب يخشون أن تكون الدولة للمؤمنين .. ولهذا فهم يلبسون الإيمان ظاهرا ، ثم يوادّون أهل الكتاب باطنا .. وبهذا ـ كما تصور لهم نفوسهم المريضة ـ يحمون أنفسهم من أىّ أذى يصيبهم من أية جبهة غلبت ، إذ سرعان ما يتحولون إلى الجبهة الأخرى التي كانوا قد احتفظوا بمكان لهم فيها ..