هكذا كان ردّ إبراهيم على القوم ، إنه ينكر عليهم هذا الضلال الذي هم فيه ، حتى إنهم ليعترفون بألسنتهم على هؤلاء الآلهة بأنهم فى عجز ظاهر ، وأنهم لا ينطقون .. (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) .. هكذا يقولونها فى بلاهة وغباء .. فيجبههم إبراهيم بهذا الردّ المفحم : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟) .. أفيصحّ بعاقل لعلم هذا العلم من أمر تلك الأصنام ، ويعرّيها من كل قوة ، ثم يعود إليها خاضعا ذليلا ، يتخاضع بين يديها ، ويعفّر وجهه بالسجود تحت أقدامها؟ إن ذلك لا يكون من إنسان فيه مشكة من عقل .. ولهذا أتبع إبراهيم هذا القول بقوله :
(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ .. أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟ وربما قال إبراهيم هذا فيما بينه وبين نفسه ، فبعد أن واجههم بهذا الإنكار : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟) رجع إلى نفسه ، فأدار فيها هذا الحديث بينه وبينها ..!
وكلمة (أُفٍّ) هنا ، معناها : بعدا لكم ولما تعبدون من دون الله. فالتأفف من الشيء ، يشير إلى التأذى منه ، والضيق به .. وهو حكاية للصوت التي يحدثه الإنسان بأنفه وفمه ، حين يشمّ ريحا خبيثة .. ثم أتبع ذلك بهذا الاستفهام الإنكارى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟ أي أمالكم عقول كسائر الناس ، حتى تستسيغوا هذا المنكر ، وتسكنوا إليه؟.
(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).
هذا هو موقف العاجز ، أمام حجة العقل والمنطق .. إنه لا يملك إلا أن يتحول إلى حيوان ، ينطح بقرونه ، وينهش بمخالبه وأنيابه!
لقد اتهموا إبراهيم ، وأدانوه ، وأصدروا حكمهم عليه : (حَرِّقُوهُ)! هكذا بكلمة واحدة يقضون قضاءهم فيه ..