جميعا ، لم يستبدّ به الجزع ، ولم تستول عليه الحيرة ، ولم تحرقه أنفاس الضيق والألم .. بل ظلّ مجتمع النفس ، ساكن الفؤاد ، رطب اللسان بذكر الله .. فلما اشتد به الكرب ، ورهقه البلاء ، وأراد أن يذكر نفسه ، ويشكو لربّه ما يجد ، لم يزد على أن يقول بلسان رطب بالصبر ، وبأنفاس نديّة بالإيمان : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وكان أن سمع الله دعاءه ، واستجاب له ..
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ .. فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ .. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ).
وهكذا يجزى الله المحسنين الصابرين .. كما يقول سبحانه : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) .. لقد كشف الله عن أيوب الضر الذي أصابه فى جسده ، ورزقه من البنين والأموال ضعف الذي ذهب منه ..
وقوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي أن ذلك العطاء كان رحمة منّا ، أصبنا بها عبدا من عبادنا المخلصين.
وقوله تعالى : (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) معطوف على «رحمة» أي وكان ذلك الذي فعلناه بعبدنا (أَيُّوبَ) تذكرة وموعظة (لِلْعابِدِينَ) أي الذين يعبدون الله ، ويحسنون عبادته ، ويصطبرون عليها ..
فالعابدون بما لهم من صلة بالله ، ربّما يقع فى نفوسهم أنهم بمنجاة من الابتلاء بالشر ، إذ لا يكاد يقع فى تصوّر الناس أن من وثّق طلته بالله ، وتقرب بالعبادات والطاعات إليه ، هو فى مأمن مما يقع للناس من ضرّ وأذى ، فى نفسه أو ولده أو ماله .. وإلّا فما ثمرة هذه الصلة ، وما فضل الطائعين على العاصين ، والأولياء على الأعداء؟