عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غوره وغائله ، فإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقا. ولم أر أحدا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك.
ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم ، حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة ، ظاهرة التناقض والفساد ، لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلا عمن يدعي دقائق العلوم. فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رمي في عماية ، فشمرت على ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية وأنا ممنوّ بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفر من الطلبة ببغداد.
فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة على منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريبا من سنة ، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره ، حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ، وتحقيق وتخييل ، اطلاعا لم أشك فيه.
فاسمع الآن حكايته وحكاية حاصل علومهم ؛ فإني رأيتهم أصنافا ، ورأيت علومهم أقساما ، وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم سمة الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل ، تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه.
أصناف الفلاسفة
واتصاف كافتهم بالكفر
اعلم أنهم على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبهم ، ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : الدهريون ، والطبيعيون ، والإلهيون.
الصنف الأول : الدهريون : وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر ، العالم القادر ، وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه لا بصانع ، ولم يزل الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان كذلك كان ، وكذلك يكون أبدا وهؤلاء هم الزنادقة.
الصنف الثاني : الطبيعيون : وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات ، وأكثروا الخوض في تشريح أعضاء الحيوانات ، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بقادر حكيم ، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها. ولا يطالع التشريح وعجائب منافع الأعضاء مطالع ، إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان ؛ لا سيما بنية الإنسان. إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ، ظهر عنهم. لاعتدال المزاج. تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضا ، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم ، ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا ؛ فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود ، فجحدوا الآخرة