الجلاس يعتذر ويحلف بالله ما قال الذي قال فأكذبه الله تعالى في قوله في هذه الآية (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) والسياق دال على تكرر مثل هذا القول الخبيث وهو كذلك. وقوله تعالى (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (١) يعني المنافقين الذين تآمروا على قتل النبي صلىاللهعليهوسلم عند عودته من تبوك في عقبة في الطريق إلا أن الله فضحهم وخيّب مسعاهم ونجى رسوله منهم حيث بعث عمار بن ياسر يضرب وجوه الرواحل لما غشوه فردوا وتفرقوا بعد أن عزموا على أن يزاحموا رسول الله وهو على ناقته بنوقهم حتى يسقط منها فيهلك أهلكهم الله. وقوله تعالى (وَما نَقَمُوا) (٢) أي وما كرهوا من رسول الله ولا من الإسلام شيئا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وهل الغنى بعد الفقر مما ينقم منه ، والجواب لا ولكنه الكفر والنفاق يفسد الذوق والفطرة والعقل أيضا.
ومع هذا الذي قاموا به من الكفر والشر والفساد يفتح الرب الرحيم تبارك وتعالى باب التوبة في وجوههم ويقول (فَإِنْ يَتُوبُوا) (٣) من هذا الكفر والنفاق والشر والفساد يك (٤) ذلك (خَيْراً لَهُمْ) حالا ومآلا أي في الدنيا والآخرة ، (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) عن هذا العرض ويرفضوه فيصرون على الكفر والنفاق (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً) أي موجعا في الدنيا بالقتل والخزي ، وفي الآخرة بعذاب النار ، (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍ) (٥) يتولاهم ولا ناصر ينصرهم ، أي وليس لهم في الدنيا من ولي يدفع عنهم ما أراد الله أن ينزله بهم من الخزي والعذاب وما لهم من ناصر ينصرهم بعد أن يخذلهم الله سبحانه وتعالى.
__________________
(١) أخرج مسلم عن حذيفة : (أن اثني عشر رجلا سمّاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعدهم حذيفة واحدا واحدا قال قلت : يا رسول الله ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال : أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم ، بل يكفيهم الله بالدّبلة) وهي خراج يظهر في الظهر وينصب على الصدر يقتل صاحبه فورا.
(٢) أي : ليس بنقمون شيئا إلا أنهم كانوا فقراء فأغناهم الله بما كان الرسول صلىاللهعليهوسلم يعطيهم من الغنائم ، قيل لأحدهم : هل تجد في القرآن نظير قولهم اتق شر من أحسنت إليه؟ قال : نعم هو قوله تعالى : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).
(٣) هذه الجملة متفرعة عن الكلام السابق وهي من باب ذكر الوعد بعد الوعيد والترغيب بعد الترهيب ، وهو أسلوب القرآن الكريم.
(٤) حذفت نون (يَكُ) تخفيفا إذ الأصل يكن.
(٥) هذه الجملة معطوفة على جملة : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) وهي وإن كانت اسمية لا يمتنع أن تكون جوابا ثانيا معطوفا على جملة الجزاء ، لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، فالجزاء جزاءان ، الأول : تعذيبهم والثاني : انعدام الولي والنصير لهم في الأرض كلها.