معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين يقول تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ (١) مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي يا أيها المشركون بالله آلهة أصناما ضرب لآلهتكم في حقارتها وضعفها وقلة نفعها مثل رائع فاستمعوا له. وبينه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من أوثان وأصنام (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) (٢) وهو أحقر حيوان وأخبثه أي اجتمعوا واتحدوا متعاونين على خلقه ، أو لم يجتمعوا له فإنهم لا يقدرون على خلقه وشيء آخر وهو إن يسلب الذباب الحقير شيئا من طيب آلهتكم التى تضمّخونها به ، لا تستطيع آلهتكم أن تسترده منه فما أضعفها إذا وما أحقرها إذا كان الذباب أقدر منها وأعز وأمنع.
وقوله تعالى : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٣) أي ضعف الصنم والذباب معا كما ضعف العابد المشرك والمعبود الصنم (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قوي قادر على كل شيء عزيز غالب لا يمانع في أمر يريده فكيف ساغ للمشركين أن يؤلهوا غيره ويعبدونه معه ويجعلونه له مثلا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (٧٣) والثانية (٧٤) وقوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي (٤) مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) هذا رد على المشركين عند ما قالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) وقالوا : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) فأخبر تعالى أنه يصطفي أي يختار من الملائكة رسلا كما اختار جبرائيل وميكائيل ، ومن الناس كما اختار نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلىاللهعليهوسلم ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) (٥) لأقوال عباده طيبها وخبيثها (بَصِيرٌ) بأعمالهم صالحها وفاسدها وعلمه بخلقه وبصره بأحوالهم وحاجاتهم اقتضى أن
__________________
(١) ضرب المثل : هو ذكره وبيانه ، واستعير الضرب للقول والذكر تشبيها بوضع الشيء بشدّة ، وهو تعبير شائع في اللغة العربية ، والمثل هنا تشبيه تمثيلي ، إذ هو تشبيه أصنامهم في عجزها وحقارتها بالذباب في عجزه وحقارته وضمنه الإنكار الشديد عليهم في تشبيه أصنامهم بالله عزوجل إذ عبدوها بعبادته وألّهوها تأليهه عزوجل.
(٢) الذباب : اسم واحد للذكر والأنثى والجمع والقليل : أذبة والأكثر ذبان والواحدة ذبابة ، ولا يقال ذبّانة بالتشديد وكسر الذال ، والمذّبة : آلة لذب الذّبان وذباب السيف : طرفه الذي يضرب به.
(٣) قيل : الطالب : الآلهة ، والمطلوب : الذباب ، والعكس صحيح ، وجائز أن يكون الطالب : عابد الصنم ، والمطلوب : الصنم.
(٤) الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، والإخبار بجملة يصطفي بدل : نصطفي لإفادة الاختصاص أي : هنا الاصطفاء خاص به تعالى لعظيم علمه وحكمته.
(٥) الجملة تعليلية ، وجملة : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، مقرّرة لها وتفيد الدعوة إلى مراقبة الله عزوجل.