فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال وكان ذووهم يأتونهم بالطعام ولا يكلّمونهم ، ولمّا رأوا هذه الحال تهاجروا فيما بينهم وتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان حتى مضى خمسون يوما كانوا أثناءها يتضرّعون إلى الله ويبتهلون فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية ... فقد كابدوا تلك المهاجرة من المسلمين (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي ضاقت عليهم مع سعتها ، وهذه صفة لبلوغهم غاية النّدم على التأخر عن نصرة النبيّ (ص) وقد شدّد الله تعالى عليهم المحنة لاستصلاحهم واستصلاح غيرهم ، فإنهم ضاقت عليهم الأرض (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) لشدّة الغم التي عمرت صدورهم (وَظَنُّوا) أي اعتقدوا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) أي لا عاصم منه (إِلَّا إِلَيْهِ) بصدق التوبة (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) يعني سهّل لهم طريق التوبة ليعودوا إلى حالتهم الأولى (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الكثير القبول للتوبة من عباده الرحيم بهم.
* * *
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))
١١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...) خطاب منه سبحانه للمؤمنين يشرّفهم به إذ يخاطبهم آمرا إياهم باجتناب معاصيه واتّباع أوامره بالطاعات ، فمن نعمه سبحانه أنه خاطبهم عشرات وعشرات المرّات في القرآن الكريم ولم يخاطب الكافرين مرة واحدة ، وهنا يأمرهم بأن : اتّقوا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) الذين لا يكذبون في قول ولا فعل ، ولا يعرف الناس منهم إلا صدق اللهجة في سائر معاملاتهم مع الله ومع الناس. وقوله سبحانه : (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، يعني : اقتدوا بهم. وقيل إنه سبحانه عنى بالصادقين الذين عناهم قوله : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ـ يعني حمزة بن عبد المطلب ، وجعفر بن أبي طالب ـ (وَمِنْهُمْ