ومن هنا يظهر وجه العدول عن نحو قوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١) وقوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) (٢) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٣) وأمثالها الواردة في كلامه تعالى ، إلى (٤) قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) مع أنّ المناسب ظاهرا لمقام الربوبيّة التوسعة في عموم العلم وشموله.
وكذا العدول عن نحو قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (٥) ـ إلى قوله ـ : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فإنّ هذا هو الأنسب لمقام الربوبيّة من حيث العنوان ؛ إذ عنوانا «الغيب والشهادة» لا دخالة لهما في التدبير ، بخلاف العلم بما بين يدي المربوب وما خلفه ، وهو ظاهر.
ومن هنا يظهر الوجه في تذييله بقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) فإنّ من كمال التدبير أن يجهل المدبّر ـ بالفتح ـ بما يعلمه ويريده المدبّر ـ بالكسر ـ منه ؛ لئلّا يحتال في التخلّص ممّا يكرهه إلى ما يحبّه لنفسه ، فيختلّ بذلك أمر التدبير ، كجماعة مسيّرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم ، فيبالغ في التعمية عليهم ؛ حتّى لا يدروا من أين سير بهم وفي أين نزلوا ، وإلى أين يقصد بهم ، هذا.
فبيّن تعالى : أنّ العلم له سبحانه ، وإنّما يحاط من علمه بما يحاط بمشيّته ، فكلّ ما يعلمه عالم منهم ـ ثمّ يستخدم ذلك العلم في تدبير ـ فإنّما هو بمشيّته
__________________
(١). آل عمران (٣) : ٢٩.
(٢). يونس (١٠) : ٦١.
(٣). آل عمران (٣) : ٥.
(٤). متعلق بقوله : «العدول» قبل أسطر.
(٥). الأنعام (٦) : ٧٣.