عَلى مُكْثٍ) ، (١) فمن الواضح أنّ القرآن الذي هو آيات مفرّقة موزّعة على ثلاث وعشرين سنة ، وأكثرها نازلة في وقائع خاصّة تدريجيّة ، وفيها ناسخ ومنسوخ ، هو غير ما نزل دفعة في ليلة واحدة ، والذي نزل كذلك غير ما لم ينزل بعد ، وهو محفوظ لديه تعالى.
ومن هنا يظهر أنّ هاتين المرتبتين خارجتان عن باب المفاهيم مع اتّحادهما بمرتبة المعنى والمفهوم ، فهما من سنخ التأويل لانطباق وصفه عليهما.
فإن قلت : لو كان قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ، (٢) ناظرا إلى التأويل ، أوجب ذلك علم غيره تعالى بالتأويل ، وقد تقدّم أنّ قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) غير معطوف على المستثنى حتّى يشاركه تعالى في العلم بالتأويل.
قلت : هو كذلك ، والذي تقدّم هو أنّ الآية لا تدلّ على كون الراسخين في العلم عالمين بالتأويل ، لا أنّ الآية تدلّ على نفيه عنهم ، إلّا من جهة الحصر في قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ولا ينافي حصر حقيقة المعنى فيه تعالى بالذات ، ثبوته في الغير بالغير. نظير ذلك قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، (٣) فالعلم بالتأويل غير مخصوص به تعالى إلّا بنحو الحقيقة وبالذات ، نظير العلم بالغيب ، بل يعلمه المطهّرون بتعليمه تعالى ، غير أنّه لا يستفاد عن هذه الآية بل عن موضع آخر ، وسيجيء للكلام تتمّة ، فافهم.
__________________
(١). الإسراء (١٧) : ١٠٦.
(٢). الواقعة (٥٦) : ٧٧ ـ ٧٩.
(٣). الجنّ (٧٢) : ٢٦ ـ ٢٧.