وقوله عليهالسلام : «قال لهم في الذرّ» ، يدلّ على أنّ هذا الميثاق مأخوذ في الذرّ قبل هذه النشأة الدنيويّة ، ويدلّ على ذلك شمول الخطاب وكون الميثاق شاملا للأنبياء واممهم جميعا ؛ إذ لم يتّفق ذلك في النشأة الدنيا ، فموطنه نشأة قبل هذه النشأة ، والحمل على لسان الحال معلوم الحال ، وسيجيء تفصيل القول فيه.
قوله سبحانه : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)
إذ كان ذات كلّ شيء وصفاته وآثاره الوجوديّة فائضة من عند الله سبحانه لا يملك لنفسه شيئا البتّة ، كان من المحال أن يتحقّق عصيان بالنسبة إلى فيض يفيض من عنده بعدم القبول وهذا هو الإسلام الذي يشير إليه بقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلّا أنّ تخصيصه باولى العقل كما يدلّ عليه لفظة «من».
ثمّ التذييل بقوله : (طَوْعاً وَكَرْهاً) يفيد أنّ لهذا الصنف من الموجودات جهة اخرى بها يتحقّق كرهها لهذا الإسلام الذاتي ، وبالمقابلة طوعها كذلك ، فهناك طوع وإسلام شامل عامّ ، ثمّ بعده طوع وكره من حيث استقلال ذواتها المفاضة لها من عند الله سبحانه ، فكلّ شيء مسلم لله تعالى لا محالة ، ومن فى السماوات والأرض مدرك لهذا الإسلام كلّ من نفسه ، غير أنّها بين مسلم غير كاره في إسلامه وبين مسلم كاره فيه ، فمساق هذه الآية مساق قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) ، (١) فلفظ الكره مع الإسلام ذاتا يعطي أن يكون توحيدهم لله ـ عزّ شأنه ـ معلوما مدركا لهم غير مفارق لهم ، كما
__________________
(١). الرعد (١٣) : ١٥.