والعقل ، وهي التي نسمّيها بالعلوم الاعتبارية ، كإذعانه أنّه يجب أن يفعل كذا أو يترك كذا ، وأنّ هذا حسن وذاك قبيح ، فهذه علوم يوسّطها الإنسان بينه وبين ما يقصده ممّا يعتقده كمالا ، وسيجيء استيفاء بيانه فيما سيجيء إن شاء الله.
ومن اصول هذه العلوم : ما يتنبّه له ـ في بدء عثوره على هذه العلوم ـ من لزوم استخدام الغير فيما لا يناله الإنسان بنفسه ، ويشبه أن يكون إنّما تنبّه له عند أوائل استعمال الأعضاء والأدوات البدنيّة ، فيستخدم الامور الطبيعيّة من الجماد والنبات وسائر أصناف الحيوان في سبيل حوائجه ، حتّى الأفراد الاخر من نوعه.
لكن سائر أفراد نوعه حيث كانوا أمثالا له مريدين لما يريده ، أنتج قضيّة الاستخدام معهم الاجتماع والتعاون إنتاجا ضروريّا ، ووقع الإصطلاح على ذلك قهرا ، وإن لم يخل النظام الذي بين النوع ـ وهو نظام الاجتماع والتعاون بعينه ـ عن الاستخدام دائما ، وهذا هو الذي يقال : إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع.
وهذا وإن صحّ بوجه ، لكنّه ليس بصحيح مطلقا ، بمعنى اقتضاء الفطرة ذلك اقتضاءا أوّليّا ؛ ولو كانت الفطرة الإنسانيّة تلجئه على الإجتماع والتعاون ـ وبالأخرة على العدل ؛ ووضع كلّ شيء موضعه ـ كانت السيطرة للعدل على الجور ، والغلبة والظهور للصلاح الاجتماعي على فساده في وعاء النظام الدنيويّ ؛ والتاريخ والمشاهدة في السابق واللاحق يشهدان على خلافه ، وقد قال سبحانه في الإنسان : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (١) وقال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ* ... وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). (٢)
__________________
(١). الاحزاب (٣٣) : ٧٢.
(٢). العاديات (١٠٠) : ٦ و ٨.