النفوس ، ويرى وجه رونقه باديا غامرا سائر ما يقرن به ، كالدرّة التى ترى فى سلك من خرز وكالياقوتة فى واسطة العقد ، أنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها فى تضاعيف كلام كثير ، وهى غرّة جميعه وواسطة عقده والمنادى على نفسه بتمييزه وتخصصه برونقه وجماله واعتراضه فى جنسه ومائه. وهذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص ليحقق ما ادّعيناه منه ، ولو لا هذه الوجوه التى بيناها لم يتحير فيه أهل الفصاحة ، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة والتصنع للمعارضة ، وكانوا ينظرون فى أمرهم ويراجعون أنفسهم ، أو كان يراجع بعضهم بعضا فى معارضته ويتوقفون لها ، فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور لعلمهم بعجزهم عنه ، وقصور فصاحتهم دونه ، ولا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعا فيهم ، ولا متقدما فى الفصاحة منهم هذه الحال حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل ، وحتى يعرف حال عجز غيره ، إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك تحققا بظهور العجز وتبينا له. وأما قوله تعالى حكاية عنهم : (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم ، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم وهو يدل على عجزهم ، ولذلك أورده الله مورد تقريعهم ، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز ، والضمان إلى الوفاء ، فلما لم يستعملوا ذلك مع استمرار التحدّى ، وتطاول زمان الفسحة فى إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه علم عجزهم ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط ، ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول فى الحشرات والهوام والحيات وفى وصف الأزمة ، والاتساع والأمور التى لا تؤبه لها ولا يحتاج إليها ، ويتنافسون فى ذلك أشد التنافس ويتبجحون به أشدّ التبجح ، فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته فى هذه المعانى الفسيحة العبارات الفصيحة مع تضمن المعارضة تكذيبه والذبّ عن أديانهم القديمة ، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم وتضليله إياهم والتخلص من منازعته ثم من محاربته ومقارعته ثم لا يفعلون شيئا من ذلك ، وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل ويعللونها بالأباطيل.